اللبخ فتوة لنج

0 71

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

قلت في المرة السابقة إنني استغربت لورود اسم اللبخ الفتوة الأمدرماني المشهور في كتاب للمؤرخ البريطاني رتشارد هِل (1901-1996)هو “معجم شخصيات السودان”. وعَرَّف الكتاب بصفوة الحكم والإدارة والمال في السودان من سودانيين وأجانب اتصل شغلهم بالبلد. فذكر المؤرخ فضل الله اللبخ (1878-1916) الذي اشتهر بضخامة الجثة والقوة والجراءة. وقال هِل إنه من الجوامعة.

لم يكن كتاب رتشارد هل هو الوحيد الذي نزل اللبخ فيه بين صفوة الرأي والسياسة والأعيان. فقد وجدت الأستاذ محمد خير البدوي في “قطار العمر” ذكره أيضاً في سياق صفوي خالص ونسبه للجموعية. فقال إن الشريف عبد الرحمن الهندي اشتكى السيد أمين محمد حسين لوصفه إياه ب “اللبخ” في سياق انتخابات المجالس المحلية في 1947 التي اكتنفها عنف بين أنصار الشريف، زعيم الطريقة الهندية وشقيق السيد حسين الهندي، في معقله، الحاج عبد الله بالجزيرة، وحزب الأشقاء، جماعة الزعيم اسماعيل الأزهري التي استاثرت بمؤتمر الخريجين منذ انتخابات 1943 وصار واجهة لهم. ومال الشريف في تلك الانتخابات للسيد عبد الرحمن وكان المهدي استقلالياً أميل إلى بريطانيا في النزاع بين مصر وانجلترا حول السيادة على السودان، بينما كان الأشقاء وحدويين هواهم مع مصر. وعلقت “صوت السودان”، الناطقة باسم جماعة الختمية الاتحادية الهوى أيضاً، على الواقعة بكلمة كتبها السيد أمين الذي تحول إلى الختمية بعد عضويته في حلقات الشيوعيين الأولى في مصر حتى كان محرراً في مجلة أم درمان اليسارية. وكان عنوان المقال “أخطبوط الشركة الزراعية” وهي الشركة التي كانت تدير مشروع الجزيرة قبل أن يصير للدولة في 1950 يديره مجلس مشروع الجزيرة. وبدا أن الشركة كانت من وراء جهد الشريف الانتخابي لصالح الاستقلاليين.

وانعقدت المحكمة للنظر في شكوى الشريف في مبني مديرية الخرطوم من قاض بريطاني واحد يدعي مستر تردول. وتولي قضية الاتهام مستر غرنوود بتكليف من المدعي. وحضرها البدوي بعد حصوله على إجازة مرضية للغرض. ونقل منها حوارت كالتالي:

الشريف: لقد أساءت لي صوت السودان ولأسرتي فأغضبتني واستفزت أنصاري. وأشار إلى محمد أمين حسين في قفص الاتهام قائلا: أنا ما شايف سبب يخلي الزول ده يسيء لي ولأسرتي ويشبهني باللبخ الحرامي ” .

واعترف الشريف عند استجوابه بانضمامه في تلك الأيام الي الجبهة الاستقلالية التي كان عميدها الإمام المهدي وبإرساله برقية تأييداً له خلال زيارته الي لندن . كما اعترف بتكليف موظفي الشركة الزراعية البريطانيين له بمهام أمنية خلال الانتخابات . ثم جاء دور شهود الاتهام ومنهم سائق التاكسي الأمين يوسف، من شيعة الشريف، الذي كتب مقالا في صحيفة النيل يرد على ما جاء في صوت السودان عن الشريف.

-الزول محمد أمين دا ود ريف ساكت جاء ليهو سنة في السودان من مصر. دا دخيل حرب (على وزن غني حرب). القدرو شنو يتطاول على الشريف يوصفو باللبخ الحرامي المشهور قبل ما يلدونا. كان دخيل الحرب الريافي دا يقول الكلام دا في الحاج عبد الله يشوف ما يشوف. والله كان ما يحوق. والله ما برد علينا إلا عبد الله ميرغني رئيس تحرير الصوت. قابلناهو وطايبنا وقال لينا الحقيقة اللبخ دي خطأ مطبعي المقصود “اللنج”. بارك الله فيهو إلا العاصرو علي متل أمين ود الريف دا شنو؟”. ولم يسلم الشريف خلال المحكمة من لسان محمد أمين المعروف بأنه لاذع.

وكانت استراتيجية الدفاع عن صوت السودان هي أن تتذرع بالخطأ المطبعي. واستدعت للشهادة في سياق استراتيجيتها تلك شاهدين. كان أولهما السيد حسن إسحاق كبير المترجمين في مكتب السكرتير الإداري البريطاني ومن أهل بري المحس ووالد البروفسير مصطفى حسن اسحاق مدير جامعة الخرطوم في السبعينات. وشهد اسحاق بأن ما بدا للشريف من “اللبخ” خطأ مطبعي إذا لا يستقيم وضعها في العبارة. أما الثاني فقد كان السيد شوقي الأسد المدرس والداعية وقائد كتيبة المجاهدين السودانيين لفلسطين في 1948. وكان سبب استدعائه أنه خطاط يميز الحروف وتداخلها. وشهد بأن “لنج” معناه “الجديد” في مصر. وسبب شهادته هو وصفه لنفسه بأنه مولود في مصر على أنه جعلي.

ونجحت حيلة الجريدة وحكم القاضي ببراءة محمد أمين. وخرج أنصار الاتحاديين، وفيهم محمد خير البدوي نفسه، في مظاهرة فرحاً ب”حياة العدل”، وبوحدة وادي النيل، وسقوط الاستعمار. وحملوا فيها محمد أمين على الأكتاف. وسار مئات المتظاهرين إلى تمثال غردون أمام سراي الحاكم العام وفي ساحة صارت جزءاً من جنينة وزارة المالية. وخطب فيهم محمد أمين والسيد محمد نورالدين المعروف ب”الوكيل” لأنه كان النائب عن الزعيم الأزهري على الأشقاء والاتحاديين. وقال البدوي إنه تسلق قاعدة التمثال ليقود الهتاف. ثم سارت المظاهرة إلى المحطة الوسطي وعبرت شارع فكتوريا (القصر) عند لكوندة فكتوريا القديمة، وانتهت إلى نادي الخريجين (الذي صار بعض مؤسسات ولاية الخرطوم).

سيكون من المثير أن نعرف كيف وجد اللبخ طريقه إلى سفر الصفوة والأعيان وأهل السابقة: “معجم الشخصيات السودانية”. ربما وجدنا في مخطوطات هِل (حيث وجدت) أثراً يدل على “تقحم” اللبخ الفتوة معاقل الوجهاء. ولا غلاط أن هِل، في ما يقال عنه، مؤرخ بلا “قشة مرة”. وصفه أحد نعاته بأنه لا يترك شاردة من وثيقة تاريخية ولا واردة إلا تعقبها بلا هوادة. وقال إن شواهد التاريخ عنده كالذرة تطحنها رحى طاحونة فتخرج دقيقاً يصنع منه هِل التاريخ كما يدحو الخباز الرقاقة. واضاف أن الرغفان التي تخرج على يده شهية لذيذة. وحكى مؤرخ عن تبسط هِل. قال إنه زار سيد قوم ما فعرض عليه نصاً كتبه رحالة مر على بلده في قديم الزمان. والنص المعرب كان أهداه هل إلى زعيم القوم. وكانت مهاداة أهل القرى بما في كتب الصفوة عادة عنده. وأضاف المؤرخ أن الزعيم قال له وهو يريه النص: “هل تعرف رتشارد هل؟ إن بوسعه أن يحدثك حديثاً طويلاً عن أيامنا السالفة”. وربما تسرب اللبخ إلى عرين الصفوة من باب ضعف هِل حيال الماضي: غثه وثمينه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.