ليلة السكاكين الطويلة: مصرع الوزير منعم منصور وتكنوقراط دولة نميري (1975)

0 113
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
(لا فضل لي في هذا الفصل عن استقالة منعم منصور، وزير المالية في 1975، سوى تعريب فصل من كتاب منصور خالد الذي صدر في العربية بعد الإنجليزية بعنوان “السودان والنفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد” وتلخيصه. والأرقام بين أهلة للصفحات من النسخة الإنجليزية من الكتاب. وأنشر الفصل في ظرف رحيل المرحوم منعم منصور ليطلع الخلف على دور من أدوار تاريخ الدولة السودانية. وهاجسي أن الكتاب في عربيته وانجليزيته غير منتشر بشكل كاف على قيمته الكبيرة ك”بلاغ” عن دولة مايو من باطنها)
أحاطت بنميري منذ بداية السبعينات ثلاث مجموعات. التكنوقراط من اشتغل منهم بالسياسة ومن لم يشتغل ممن اختارهم لخبراتهم الأكاديمية والتقنية. وكانوا شاكرين لنميري الفرصة التي اتاحها لهم لخدمة وطنهم (70). وكانت المجموعة الثانية من أهل التعبئة السياسية بعضهم شديد القدرة والذكاء. ولكن بينهم هتيفة أرادوا تغيير السودان بالتهريج وصيحات الحرب. أما الجماعة الثالثة فهي حاشية البلاط ممن خرجوا لخدمة ذواتهم ومازوا عن الأخيرين بتربصهم ب”أبواب السلاطين” ومنفذهم إلى الرئيس. وليس لهذه الجماعة توقير للمؤسسات وصادفوا رئيساً معاد لها. وقاد هذه الجماعة الأخيرة الدكتور بهاء الدين.
وقال منصور إنه وعمر حاج موسى أعترضا عليه. ولم يسمع نميري حتى من صفيه عمر. وكان الليل قد تأخر وهما في الجدل فالتفت عمر إلى منصور وقال ربما يرى الرئيس ما لم نره في الرجل. فقال عمر لمنصور: تأخر الليل وعليّ أن اقطع كبرياً لبيتي. فقال منصور لنفسه حذراً مما سيأتي: من الآن فصاعداً حُكم علينا جميعاً أن نقطع جسراً طويلاً (72).
كانت المواجهة بين التكنوقراط مثل منصور، المؤسساتية في نظره، والحاشية، وسماهم نشّالي المتاجر، في النصف الثاني من يناير 1975 (73). وتقَصَدت الحاشية وزير المالية منعم منصور الذي وقف لهم بالمرصاد. فتربصوا به في معركة اشتهرت ب”شركة وادي النيل لما وراء البحار” التي منحتها الحكومة تصديقاً في 1970 لاستيراد حاجيات الحكومة من الخارج والتصدير له بعد تأميم الشركات الأجنبية في 1970. ولما صار منعم وزيراً في 1972 عُرض عليه أمر الشركة فنصح صاحبها، محمد الحسن عبد الله يسن، أن يُدِخل الحكومة شريكاً ب 40%. ففعل (74).
وتربصت الحاشية بالوزير في ديسمبر 1974 وسعت للتحالف مع طاقم التعبئة السياسية في الاتحاد الاشتراكي، أيدلوجيين وهتيفة. وقال منصور بحرقة إنها حملة جردت الاتحاد الاشتراكي من الرحابة ليسع الخلاف ويواليه بالنقاش. فبها تحول التنظيم إلى “تحالف جماعة متباغضة يقعد واحدها بالمرصاد للآخر، حديقة حيوانات يلتهم الفأر الفأر”. وبدأت الحاشية باختطاف مذكرة من الوزير للرئيس حول ملابسات تكوين الشركة والتصديق لها وبذلته للاتحاد الاشتراكي. ثم سرقت دوسيه الشركة بأكمله من مكتب الوزير لتجرده من الحجة. وتركت الحاشية للاتحاد الاشتراكي إدارة حملة شركة النيل ضد الوزير بحجة مجانبته مباديء مايو ومنح شركة ما احتكار أعمال ما.
لم يستدع الاتحاد الاشتراكي منعم منصور ليستمع إلى قوله. وأسرعوا بعرض المسألة على مجلس الشعب فأوقف منعم منصور أمامه ليرد على نقد قادة المجلس واتهاماتهم. فأطلعهم على أن الشركة مصدق بها منذ 1971 وأجازها الرئيس في 1973. فأمروه ألا يأت باسم الرئيس في السياق بينما لم يكن منعم، في قول منصور، يريد التذرع به بسبقه الإعلان أنه يتحمل المسألة كاملة صحت أم أخطأت. فالشركة عنده مسجلة وفق القواعد المعمول بها ولا تحتكر السوق إن لم تفتح له أبواباً أخرى. وطلب منهم أنه إذا صح عزمهم أن يعرضوه لمحكمة الحزب الحاكم وفق قوانينه. وقرر مجاس الشعب سحب التصديق من الشركة (77).
وكان نميري يفرك يديه، في قول منصور، طرباً للفتنة التي تفرق فيسد (77). وتقدم منعم باستقالته في 25 يناير 1975. وسارع منصور ليقول بأن نميري أعاد تعيينه بعد ست سنوات من تاريخه ليحل محل بدر الدين سليمان في وزارة المالية. وكان بدر الدين من “صقور” حملة نزع التصديق من شركة النيل. وجاء في استقالة منعم:
“جاؤوا بي للحكومة للمساهمة في مهمة عالية. وبدلاً من القيام بواجب المسؤولية المعلقة في عنقي وجدت نفسي مكتنفاً بمؤامرات طاردة. وصار الخيار أمامي أن أتمرغ في صراع العصب المتآمرة أو أن أبعد نفسي عن ساحتها باحثاً عن وظيفة تؤمن لي خدمة مُثلي لشعبنا” (78).
ويؤرخ منصور خالد بذلك اليوم بالسودان الذي لم يعد هو السودان. وهو يوم نصر نشالي المتاجر الذين صاروا من مؤسسي دولة مايو (97). ورتبوا أمرهم للتخلص من الثلاثي مما سموهم “مراكز القوى” التي تكونت من منصور المالية ومنصور الخارجية وموسى بلال الصناعة. واكتمل نصرهم بسبت السكاكين الطويلة (26 يناير 1975). واستجاب لهم الرئيس بتغيير في القيادة وتبديل. فخرج في سبت السكاكين عمر الحاج موسى من الإعلام. وقَبِل بأن يكون الأمين العام للاتحاج الاشتراكي بعد رفضه عرض السفارة له. كما أُخرج جعفر بخيت من الحكم المحلي إلى رحاب الاتحاد الاشتراكي. وذهب وديع حبشي من الزراعة، وسر الختم الخليفة من التربية. وتم تعيين مامون بحيري وزيراً للمالية ومنصور خالد للتربية والتعليم، وحبشي للمجلس القومي للبحوث. وخرج موسى بلال كما خرج منعم منصور لا يلوي على شيء. ولم يبق من طاقم التكنوقراط الذين سمى منصور سنواتهم من 1972-1975 عهد السعد والظل لمايو سوى عبد الرحمن عبد الله وزير الخدمة والاصلاح الإداري.
وعلق منصور:” وهكذا خرج الوزراء الذين حملت أكتافهم عجلة النظام لأربع سنوات ملئة بالأحداث دافعين لثمن نجاحهم وشغلهم الشاق لإلهام رئيس لا قيمة له” (81). وتبنى نميري، الذي لا قيمة له، بنفسه مسح أبطال سنوات الوعد بالأرض. فقال إنهم بلا ثمرة ولا يعرف لهم إنجازاً. فقال في خطابه عن فريق منصور: “صبرت عليهم حتى خبطوا القاع” (83). فظل مراقباً لهم، كما قال، سامعاً لأقوالهم إنهم مركز دائرة الدولة وصناع القرار مع أنهم أعضاء بمجرد الاسم في الاتحاد الاشتراكي الحزب الواحد على احتلالهم مواقع عليا في قيادته وكتابة أدبه. وقال إنه رأى منهم تباطوءً في تنفيذ توجيهاته بل إجهاضاً لمبادراته بالذات في حقل التنمية بالتكاسل والإرجاء في كتابة الدراسات للمشروعات المختلفة. وهذا يعني الزيادة في تكلفة المشروع بسبب المماطلة والانتظار (84).
ونال منصور خالد تقريعاً خاصاً من نميري. فقال عنه بما يفهم اللبيب: “رأيت كيف تواترت أسفارهم لأداء أشغال بالخارج. وبعض هذه الأشغال لا تستدعي السفر وأغنى عنه تبادل الرسائل والمذكرات. ثم هناك المؤتمرات المتلاحقة التي كانت لبعض أعضاء المجلس السابق إجازة لا شغلاً (84). فالتقارير الواردة من هذه المؤتمرات وضحت أن انعقادها كان على مستوى السفراء لا الوزراء (85). ولم يغفر منصور لنميري قوله الكذوب عن أدائه بالخارجية حقاً فأفرد فصله الأخير من الكتاب لعرض ما تم من إنجاز بالوزارة تحت قيادته. واسترعى انتباهي كيف حمل منصور نميري حملاً ليتنازل عن مواقف في السياسة الخارجية عرض فيها اسم السودان وصوته في المحافل الدولية بثمن بخس لأمثال عدنان الخاشوقجي. ولكنه سارع في الفصل الذي روى فيه واقعة سبت السكاكين الطويلة للدفع عن نفسه وأدائه بأنه كان الوزير، بين سائر الوزراء، من كانت تقاريره اليومية والشهرية والسنوية مبذولة ونشرتها دار جامعة الخرطوم للنشر. ولو رجع إليها الرئيس لما احتاج لغيرها عن أدائه. وأكثر أسفاره للخارج كانت مع الرئيس نفسه سوى تلك التي كانت للترويح الرئاسي. وجاء بطرف منها بين قصور الخاشوجقي وطائراته السخية (85).
وسيرى قارئ منصور أنه شديد الاعتقاد بالجبن الشخصي لنميري بخشيته المواجهة. فلم يرد لخطاب السكاكين الطويلة الذي ألقاه أمام المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي أن يذاع على الملأ. وتغير الأمر في ظرف 5 دقائق لأن وزيرين ذهبا للرئيس وقالا له إن خطبته كانت فارقة والأعظم أبداً. وبعد اسبوع تبنى المجلس كلمة نميري كوثيقة تاريخية (85).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.