ما قال ليكم مستر جيمس كري الجد الإدارة الأهلية باطل فاجتنبوه
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
أذيع منذ أسابيع فكرة مؤداها أن الإدارة الأهلية هي نظام فبركه الاستعمار ونحن على سنتهم. وأطرق هنا براهين أخرى في صحة الفكرة. وأبدأ بالسؤال:
هل كان الإنجليز كافة في إدارة السودان على قلب رجل واحد في إنشاء الإدارة الأهلية على الصورة التي ورثناها عنهم؟
والإجابة لا. فكل قارئ عابر لأدب الإدارة الإنجليزية في السودان وكتابات أفرادها يرى أنهم اختلفوا حول جدواها حين بدأ التشريع النشط لها بعد ثورة ١٩٢٤. بل تجدهم فرزوا كيمانهم. فسمى المتحفظون منهم على هذه الإدارة رفاقهم الذين كان يزبدون همة لقيامها ب”الرومانطيقيون”، أي الحالمين بالهروب من وعثاء إدارة بلد غيروه هم أنفسهم تغييراً كبيراً خلال ثلاثة عقود منذ ١٨٩٨ إلى إدارة من زمن سبقهم لم توجد، أو لم تعد توجد. وكان من أشد هؤلاء الرومانطيقيين بأساً أ ديفز صاحب كتاب “على ظهر جمل” (١٩٥٧). ومن المؤكد أنه الموظف الحكومي الأول في السودان الذي حظي ببعثة حكومية كانت إلى نيجيريا ليقف عن كثب على نظام الحكم غير المباشر فيها. وهو الحكم الذي راده لورد لوقارد والى شمال نيجريا الذي ضم مملكة صكتو الإسلامية. وعاد ديفز من البعثة يقدح شرراً يريد تطبيق ما تعلمه في نيجيريا بغض النظر.
وكان بين الإداريين البريطانيين ممن يمكن تسميتهم ب”المعتدلين” في الموقف من الإدارة الأهلية من ناصبوا الخصومة الرومانطيقيين. بل منهم “الروافض” للإدارة الأهلية. ومنهم جيمس كري أول مدير للتعليم في السودان ومدير كلية غردون (١٩٠٠-١٩١٣). ودلني عليه صديقي علي سليمان، عميد كلية القانون السابق، بعد اطلاعه على أحد مقالاتي القديمة. وهذه زمالة للفكر بين على سليمان وبيني تعود إلى ستينات عطبرة الثانوية. لله دره. ومعروف عن كري أنه هو واضع مقاصد التعليم في السودان لم تتغير. فمقاصده هي تعليم السودانيين لفهم عناصر الحكم الذي عليهم، وتخريج موظفين وفنيين للعمل في آلة الدولة. وصدق منصور خالد حين قال إن أقصى مطلب للتعليم عندنا هو توشيح الخريج بشهادة طبقية تنقله من حال إلى حال.
أذاع كري رأيه السلبي عن الإدارة الأهلية في مقال ذائع ولكنه غير مقروء عندنا للأسف. وعنوانه “التجربة التعليمية في السودان المصري الإنجليزي ١٩٠٠-١٩٣٣” نشره عام ١٩٣٥ في مجلة الجمعية الأفريقية الملكية. قال فيه إنه لاحظ تغيراً في الإدارة الإنجليزية حيال التعليم بعد ١٩٢٤ سماه تغيراً في المزاج لا في السياسة. تبخرت به الحماسة للتعليم وصارت “الإدارة الأهلية” قبلة تلك الإدارة. وقال إن الحكم غير المباشر (ونصيبنا منه الإدارة الأهلية) كان إنجيل الاستعماريين الإنجليز في أفريقيا. وكان لورد لوقارد، الذي استنبطه من فترة ولايته على شمال نيجريا واحتكاكه بما بقي من دولة صوكتو الإسلامية هناك كما تقدم، هو نبي ذلك الحكم. ولكن ذلك الحكم، في قوله، جاء بنتائج لم ينتظرها النبي منه. فكان لوقارد في وصف كري له مستنيراً شجع تعليم الأهالي في الهند وإليه نعزو نشأة جامعة هونغ كونغ. ومن النتائج الخائبة للإدارة الأهلية التي لم تحظ بالنقد المستحق، في قول كري، تحولها إلى حجر عثرة كبير للتقدم المنتظر من الحلول الأوربي وسط الأهالي في أفريقيا.
لم ير كري في الإدارة الأهلية سوى فبركة إنجليزية. فلم تبق من حكومة القبائل التقليدية لمّا جاء الإنجليز للسودان إلا الفتات بفضل النظامين المركزيين، التركية والمهدية، اللذين زعزعا كيانها زعزعة كبيرة. فقال، حرفياً، إن التركية المهدية سحقا تلك الحوكمة التقليدية فصارت هباء منثورا. وهذا حرف كلمه.
وأرخ كري لتحول الإدارة عن حكمها المباشر للريف لربع قرن إلى تولية الإدارة الأهلية عليه إلى مقتل الحاكم العام للسودان سير لي ستاك عام ١٩٢٤ في مصر، وعواقبه بما في ذلك ثورة ١٩٢٤. وقال إن مقتل الحاكم العام أرعب الإداريين الإنجليز وغادروا بيروقراطيتهم المركزية إلى الإدارة الأهلية. وأنشأوها من عدم، أو شبه عدم. وصور فبركة الإنجليز لها بصورة كاريكاتورية ساخرة بقوله:
ستري بأم عينيك، وقد خيم الرعب على الإدارة البريطانية، إداريين إنجليز شباب ينبشون أجداث قبائل ضائعة، وينفخون الروح في مشائخ طواهم النسيان، يحاولون بذلك ابتعاث نظام اجتماعي عفا عليه الدهر.
ولا أعرف من اقترب من مفهوم “النوستالجيا الإمبريالية” مثل كري في عبارته أعلاه. والمفهوم من سك ريناتو روسالدو عالم الاجتماع الأمريكي. وأراد به أن الاستعمار يطرأ على الناس، ويبدل حياتهم تبديلا، ثم تجده يتأسف، متى أراد بعث بعض ثقافتهم في توقيته الخاص، لأن الأشياء لم تدم على حالها قبل حلوله. فغير الإنجليز السودان خلال ربع قرن لم يطرأ لهم فيه استصحاب الإدارة الأهلية مهما كان معني ذلك في مهمتهم. ثم ما عضتهم الحركة الوطنية بنابها حتى طلبوا حلف آباء الريف الطبيعيين يستعينون بها على المتعلمين. ولم يطرأ لهم أنهم غيروا السودان طوال هذه المدة تغييرا لا رجعة منه مهما قلنا عن درجته. ولكنه حين احتاج لزعامات في الريف نسي، أو تناسي، أن الريف لم يعد على حاله الأول مهما بدا غير ذلك. ولأن الأهالي صاروا غير ما كانوا عليه أول حضور الاستعمار للبلد فالاستعمار، إن أضطر للتعاطي معهم، كان ذلك عن طريق اختراع إدارة من صنعه، أي فبركتها.
ولكري حيثيات غاية في القوة عن فساد الإدارة الأهلية ورجعيتها نعرضها في القادم إن شاء الله.