ثَمَنُ نَكْهَةِ الشِّوَاء!

0 63

كتب: كمال الجزولي

.

الإثنين
هل قاد البلاشفة الرُّوس «ثورة أكتوبر» على «ثورة فبراير» عام 1917م، لمجرَّد إسقاط حكومة اليكساندر كيرنسكي، رئيس الحزب الثَّوري الاجتماعي، وعضو التَّحالف المعارض للقيصريَّة، قبل أن يصبح، إثر سقوطها، رئيس وزراء الحكومة المؤقَّتة؟! وهل ساقوا الجَّماهير خلفهم ضدََّ تلك الحكومة، عبر قفزة عمياء في الظلام، دون أن يستبينوا بديلها، أصلاً، أم رفعتهم إلى السُّلطة خطَّة مبصرة ارتقت بالثَّورة، وحركتها الجَّماهيريَّة، من قيادة البرجوازيَّة إلى قيادة الكتلة التَّاريخيَّة للعمَّال والفلاحين والجُّنود؟!
تصعب الإجابة بغير العودة لتتبُّع الأحداث، منذ تكوين حكومة كيرنسكي نفسها، عقب الانفجار العفوي لثورة فبراير البرجوازيَّة، كتعبير عن تبلور «الأزمة الثَّوريَّة»، آنذاك، في عدم استعداد الرُّوس لتحمُّل البقاء لأيِّ يوم آخر تحت القمع القيصري، كما وفي عجز القيصريَّة نفسها عن افتراع أيِّ حلٍّ جديد لأبسط مشكلات الأمَّة الرُّوسيَّة.
هكذا انفجرت النَّقمة، في فبراير 1917م، على الحرب، والفقر، وانعدام الأقوات، لتنداح جماهير العمَّال والفلاحين على شوارع سانت بطرسبرج، وموسكو، وكييف، وخاركوف، وغيرها من مدن الامبراطوريَّة وأريافها، ببطونهم الخاوية، وأقدامهم الحافية، تدعمهم مختلف فئات المثقفين، والطلاب، وشرائح الطبقة الوسطى من صغار الموظفين، والمعلمين، وسائر المهنيِّين الثَّوريِّين، رافعين، بالأساس، هتافات العداء للقيصريَّة، وشعارات الدَّعوة للاضراب العام، على حين لم يكن جلُّ اهتمام التَّحالف الرَّأسمالي الاقطاعي ليغادر طموح الانتصار في الحرب الأولى!
مع احتدام الثَّورة مضى يتآكل حكم نيقولا، آخر قياصرة آل رومانوف الذين سادوا روسيا لثلاثة قرون، وترتخي، شيئاً فشيئاً، قبضته على السُّلطة، إلى أن بلغ الأمر تمرُّد أغلب جنود الجَّيش، وعصيانهم للأوامر، بل والتحاقهم بالثُّوَّار، جهاراً نهاراً، حدَّ الاصطدام مع قوَّات الشُّرطة، فانهارت، تماماً آلة القمع التي كانت القيصريَّة تعوِّل عليها، لدرجة فشل قادتها حتَّى في إقامة «دِّكتاتوريَّة عسكريَّة»، يرغب فيها القيصر، دَعْ ما أصاب الآلة المدنيَّة للسُّلطة من تخثُّر ألغى أيَّ معنى لوجودها!
هكذا، لمَّا لم تعد ثمَّة سلطة فعليَّة في يد نيقولا، لم يكن أمامه سوى الاستسلام للهزيمة، وقبول الصَّفقة التي عرضها عليه كيرنسكي للتَّنازل عن العرش لشقيقه ميخائيل، مقابل بقاء القيصريَّة ولو شكلاً! بيد أن تلك الصَّفقة لم تكتمل بسبب معارضتها من قِبَلِ البلاشفة، ومن خلفهم غالبيَّة الشَّعب، وكان كيرنسكي قد حاول تمريرها، عبثاً، بمنطق حقن الدِّماء، وتحقيق سلميَّة التَّغيير، والحدِّ من الاضطرابات، وتوحيد الجَّبهة الدَّاخليَّة!
شهدت الأشهر التَّالية مزيداً من اخفاقات حكومة كيرنسكي البرجوازيَّة المؤقَّتة على جميع الأصعدة، خصوصاً الاقتصاد، وعلى رأسه الصِّناعة والنَّقل، وتعسَّر الحصول على أساسيَّات المعيشة، كما تراجعت الأجور، وأغلقت معظم الشَّركات، والمراكز الصِّناعيَّة، وارتفعت معدلات البطالة، وتراكم الدَّين الخارجي.
إزاء ذلك قاد البلاشفة خطَّاً سياسيَّاً أساسه تنظيم القوى الشَّعبيَّة، ونشر الوعي وسطها بهذه الاخفاقات، وبمطلوبات تطوير الثَّورة، بعيداً عن أيِّ دعوات غامضة تحدث شروخاً في صفِّ الثُّوار، وتدفع الجَّماهير إلى قفزات عدميَّة في الظلام! ولأجل ذلك حرص البلاشفة على تميِّيز خطِّهم الدِّعائي عن خطوط الثَّورة المضادَّة، فرفعوا شعارات سهلة، مباشرة، شديدة الوضوح، ونداءات جذَّابة، مقنعة، كفيلة بتحقيق الالتفاف الجَّماهيري حولها، كالشِّعارات والنِّداءات المضادَّة للحرب، والدَّاعية للمزيد من السُّلطة لسُّوفييتات (مجالس) العمَّال والفلاحين والجنود، وللضَّرب بيد من حديد على مخططات الثَّورة المضادَّة، وفضح المسؤولين الذين يتبنُّونها، ولجم الفساد والمفسدين، وما إلى ذلك. هكذا انطلق البلاشفة نحو «ثورة أكتوبر» من منصَّة «ثورة فبراير»، رغم ما كانت الأخيرة تعاني من عوائق، فانطرح برنامجهم، ابتداءً، على طول خطِّ المشاركة النَّشطة في توطيد انتصار تلك «الثورة البرجوازيَّة» على النِّظام القيصري، وتطويرها، جدليَّاً، ضدَّ مخطَّطات «الثَّورة المضادَّة»، لا بالتَّطابق معها كدعوة عدميَّة لإسقاط حكومة كيرنسكي! لذا، عندما أقدم الجنرال لافار كورنيلوف، القائد العام للجَّيش، قبل شهرين من «ثورة أكتوبر»، على محاولة انقلابيَّة ضدَّ تلك الحكومة، لم تتردَّد اللجنة المركزيَّة لحزب البلاشفة في حشد جماهير العمَّال، والجُّنود، وبحَّارة أسطول البلطيق، في قوَّات غير نظاميَّة، وقيادتهم للدِّفاع باستماتة عن الثَّورة وحكومتها المؤقَّتة، حتَّى تمكَّنوا من دحر الانقلاب.
زاد الانتصار على المحاولة الانقلابيَّة من اقتناع جماهير الشَّعب باستراتيجيَّة البلاشفة، ورفع من أسهمهم السِّياسيَّة، حيث اكتسحوا انتخابات سوفييتات «مجالس» العمَّال في معظم المدن، بما شكَّل قوَّة موازية لسلطة الحكومة. وتجلت حنكتهم في التَّعاطي مع تلك «الازدواجيَّة» في السُّلطة، والوقائع المصاحبة لها، مِمَّا كنَّا قد عرضنا له ذات روزنامة سبقت، لتعزِّز من ارتفاع قيمة تلك الأسهم، إذ ما لبثت أن انهمرت النِّداءات من مختلف هذه السُّوفييتات كي تستولي مركزيَّتها على السُّلطة! وخلال الأسابيع السَّابقة على «ثورة أكتوبر»، أو ما عُرف بـ «الثَّورة البلشفيَّة»، تفاقمت اضرابات العمَّال، وازدادت سيطرتهم على خطوط الانتاج والتَّوزيع في أكثر المدن والمناطق، خصوصاً في قطاعات المناجم، والسِّكَّة حديد، وصناعات النَّفط، والغزل والنَّسيج، وتضاعفت أعداد العمَّال المشاركين بتلك الاضرابات حتَّى فاقت المليون عامل. ومع تزايد شوكتهم، أمكن للبلاشفة، بقيادة لينين، الاستيلاء، بين يومي 25 و26 أكتوبر 1917م، على السُّلطة في العاصمة سانت بطرسبرج، ومن ثمَّ بسطوا سيطرتهم على سائر البلاد.
الثُّلاثاء
من أكثر أحداث «سدِّ النَّهضة» غموضاً، الاتِّهام الغليظ الذي وجَّهه آبي احمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، لإحدى شركات الجَّيش المسيطرة على الاقتصاد الإثيوبي منذ فترة طويلة! آبي الذي تولى السُّلطة في أبريل 2018م أعلن، عبر مؤتمر صحفي، في أغسطس 2018م، إنهاء عقد شركة «ميتيك» التي كانت تعمل، مقاولاً من الباطن، مع شركة «ساليني» الإيطاليَّة، في بعض أعمال الهندسة المدنيَّة للسَّد، حيث اتَّهمها بالافتقار لمجرَّد المعرفة العامَّة في هذا المجال، مِمَّا يهدِّد بتعطيل البناء، قائلاً: «سلَّمنا مشروعاً مائيَّاً معقَّدا إلى أناس لم يروا سدَّاً في حياتهم»! لكن الجَّيش لم يصدر أيَّ ردِّ فعل، حتَّى الآن، رغم اعتماد الحكومة عليه في بعض علاقاتها الخارجيَّة!
الأربعاء
قرار الحكومة الانتقاليَّة بتسليم المتَّهمين الدَّوليِّين، والتَّعاون مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، هو مِمَّا يرفع، يقيناً، سمعة السُّودان وسط الشُّعوب المتحضِّرة، لا مجرَّد عقد مؤتمرات الدَّعم القتصادي، أو تسوية الدَّين الخارجي!
الخميس
واقعتان لافتتان بقوَّة في شأن المسألة الهويويَّة واللغويَّة في السُّودان: الواقعة الأولى تتَّصل بتعليق شديد الحماس وجدتُّه في ذيل خبر بأحد مواقع التَّواصُّل الاجتماعي حول أن «مدرسة ابو سمبل المختلطة» أجرت طابورها الصَّباحي باللغة النُّوبيَّة، يقول التَّعليق: «اللغة النُّوبيَّة والحضارة النُّوبيَّة باقية ما بقيت الأرض»، فذكَّرني كلاهما، الخبر والتَّعليق، بما كان محمَّد وردي قد كشف، في حوار صحفي مطوَّل أجراه معه حسن الجِّزولي، من أنه رفض، ابتداءً، المشاركة، عام 2005م، في فعاليَّات «الخرطوم عاصمة للثَّقافة العربيَّة»، متشكِّكاً في الأمر برمَّته، رغم أن وزير ثقافة النِّظام البائد حاول إقناعه بأن المهرجان مقام في إطار الجَّامعة العربيَّة، وأن السُّودان عضو فيها، وأنها هي التي ستتولى الصَّرف على المناسبة! لكن وردي مضى يقول: «ياخي الدَّولة قد تكون عضواً في الجَّامعة العربيَّة، لكن أنا شخصيَّاً لست عربيَّاً»! وأردف بقوله: «أعلنت أنني لست مؤمناً بذلك، حضرت اجتماعاً واحداً وابتعدت»! ثمَّ دلف إلى أخطر جوانب حديثه، قائلاً: «في الافتتاح شاركت بدون اقتناع، غنَّيت جزءاً من نشيد (يقظة شعب)، لكنني أضفت إليه كلاماً نظمته ارتجالاً بـ (الرُّطانة) قلت فيه: هذا موضوع مفروض علينا، وأنا لساني ليس عربيَّاً، لكنهم عرَّبوني رغماً عنِّي، والنُّوبيُّون كانوا مبسوطين منِّي جدَّاً» (الميدان؛ 28 أغسطس 2007م).
أمَّا الواقعة الأخرى فمناسبتها أنه مرَّت، قبل أيَّام، الذكرى الثَّانية والخمسون لبيان 9 يونيو الذي أصدره الشَّهيد جوزيف قرنق عندما كان وزيراً لشؤون الجَّنوب عام 1969م، واعتُبر أوَّل اعتراف سياسي رسمي بظلامات «المهمَّشين» في الدَّولة السُّودانيَّة. تلك الواقعة تتَّصل، أيضاً، بحوار صحفىٍّ نشر قبيل وفاة القائد يوسف كوَّة، حيث كان محرر AFRICANEWS قد وجَّه إليه سؤالاً عمَّا لوحظ أنه يردِّده فى أحاديثه باستمرار، حول شعور يقول إنه كان يتملكه فى السَّابق بأنه «عربي»، فأجاب بأنه، بالفعل، كان يشعر بذلك لمجرَّد أنه «مسلم». لكن ذلك الشُّعور تغيَّر إثر اصطدامه بتجارب مريرة وقعت اثنتان منها، على الأقل، وهو تلميذ بالأوليَّة، و«.. كنت وقتها شديد الايمان، أقرب إلى الأصوليَّة الاسلاميَّة .. وكنت أحرز الدَّرجات العليا في (التَّربية الاسلاميَّة). غير أن المدرِّس روى لنا، ذات يوم، حكاية قلبت كيانى تماماً. كان الدَّرس عن (عذاب القبر)، حيث شرح لنا المدرِّس ما ينتظرنا بعد الموت، قائلاً: إن كنت مسلماً فإن ملاكاً، ببشرة تشعُّ نوراً، سوف يصطحبك إلى الجَّنَّة، أما إن كنت كافراً فإن ملاكاً عبداً أسوداً سوف يأخذك إلى النَّار! وتعجبت من وجود ملاك عبد! ومن اقتران عبوديَّته بسواد لونه! أربكتنى تلك المسألة، غير أننى لم أفاتح أحداً بشأنها، حتَّى جاءت الحادثة الثانية أثناء إحدى حصص الدِّين أيضاً، حيث كان الموضوع عن (النساء)؛ وفجأة قال المدرِّس بامتعاض إن (النُّوباويَّات)، فقط، هنَّ اللاتي يشتغلن (خدَّامات) فى الخرطوم! أحسست بمهانة مزلزلة، وطفقت أراجع معتقداتي، وقناعاتي السِّياسيَّة، فظهر التَّغيير واضحاً في سلوكي، وكتبت شعراً عن قضاء السُّود وقدَرهم، قلت فيه: عبيد .. عبيد، لأننا سود ، فهل قدرنا أن يكون لنا أسياد لمجرِّد أننا سود»؟! ثم روى كيف تراكمت فى حياته مثل تلك الحوادث السَّالبة، مِمَّا أفضى به إلى الغابة، حتَّى أضحى نائباً للعقيد د. جون قرنق في قيادة الحركة الشَّعبيَّة/الجَّيش الشَّعبي لتحرير السودان بمنطقة جبال النوبا (Interview by Stephen Amin; AFRICANEWS, Issue 61 – April 2001).
لا يصحُّ، بطبيعة الحال، التعويل على مثل هذه الخبرات الشَّخصيَّة المؤلمة وحدها في إعادة تركيب المشهد الكلي للتَّاريخ. ومع أن مثل هذه الإفادات الصَّادرة عن قائد مرموق في قامة المرحوم يوسف كوَّة لا يمكن أخذها إلا على محمل الاسقاط لخبراته الباكرة كإنسان، والكامنة، ولا بُدَّ، في خلفيَّة نشاطه العام كسياسي وكعسكري، دون إعطائها حجماً أكبر من طبيعتها في نسق العوامل المكوِّنة لشخصيَّته كمناضل، إلا أنه ينبغى عدم إغفال حقيقة أن هذه الحالة المحدَّدة تتجاوز خصوصيَّة فرديَّتها لتكشف عن «العامِّ المجرَّد» الذى هو سمة متكرِّرة فى ظاهرتها، كما وعن «العامِّ العيانى» الذى يجسِّد قانون أو نسق الرَّوابط فيها، بما يشكِّل مقطعاً مستعرضاً cross section لتسرُّباتها، أحياناً، لدى كلِّ أشباهها ونظائرها، بين «الوعي» و«اللاوعى» في مجمل النَّموذج النَّمطي لاحتجاجات «الهامش» بتمظهراتها التَّقليديَّة، خصوصاً في الجَّنوب «زمان» كما وفي الغرب، مِمَّا درجت أيديولوجيا الاستعلاء السُّلطوي على تسميته «تمرُّداً» أو «حركات عنصريَّة». وربَّما كانت قريبة جدَّاً من ذلك شروحات سايمون كالو، مدير تعليم الحركة بجبال النُّوبا، لخلفيات قرارهم، فى 2001م، بإحلال الانجليزيَّة محلَّ العربية، لغة للتَّخاطب والتَّعليم فى المناطق المحرَّرة، حيث لم يكتف بتقرير أن النِّظام التَّعليمي القديم كان يهدف، بالأساس، إلى تعريب وأسلمة النُّوبا، بل حرص، أيضاً، على إضافة قوله: «لقد أسلمت أنا نفسـي عندما كنت تلميذاً، وغيَّرت اسـمي لاسماعيل، وإلا .. لما كنت أكملت تعليمـي»!
الواقعتان آية في اقتصاص «هويَّات الهامش» من «عروبة المركز»! وهو ما ظلَّ ديموقراطيُّو الجَّماعة المستعربة المسلمة يحذِّرون منه، منذ أيَّام الجَّبهة المعادية للاستعمار، داعين، منذ مطالع الاستقلال، لإنصاف الأقليَّات «إثنيَّات الهامش»، بتشجيع ازدهار ثقافاتها، واستخدام لغاتها في التَّعليم العام، على الأقل، كمطلب ضروريٍّ لتصفية إرث الاستعلاء الذى ظلَّ يُمارَس، باسم «العروبة» و«الإسلام»، لما يربو على خمسة قرون، مِمَّا أفضى، ضمن عوامل أخرى، لحرائق البلد (راجع كتابنا بعنوان: الآخر ـ بعض إفادة مستعرب مسلم عن أزمة الوحدة المتنوِّعة في السُّودان، القاهرة 2006م، ص 141 ـ 233).
لغة كلِّ تكوين إثنىٍّ، هي نسق من الإشارات والرُّموز يتشكل، بالأساس، في سياق نشاطه المادِّي، فيصوغ بنيته الثَّقافيَّة الرُّوحيَّة. فهي، إذن، ماعون الثَّقافة، وصورة الفكر، والعاكس المعنويُّ لعلاقاته، والمعادل الموضوعيُّ للوجود كله، بل أحد أهمِّ العوامل المؤثِّرة فى تشكيل الوعي الاجتماعي، كأداة للمعرفة، ولحفظ واستعادة القيم الرُّوحيَّة، أي كأداة رئيسة للذَّاكرة الاجتماعيَّة، وكفاها بذلك خطورة!
وردت أوَّل معالجة سودانيَّة مستقيمة لمسألة اللغات الوطنيَّة ضمن دستور 2005م الذي انبنى على اتِّفاق السَّلام الشَّامل CPA، والذي نصَّ على حقِّ كلِّ ولاية في اعتماد لغتها القوميَّة كلغة رسميَّة، إلى جانب العربيَّة والإنجليزيَّة، متيحاً لشتَّى التَّكوينات تلبية أشواقها في هذه النَّاحية، دون أن تضطرَّ لتسريب «قصاصها» من الاستعراب إلى شرايين علاقات الهويَّة الثَّقافيَّة واللغويَّة ضمن منظومة التنوُّع السُّوداني. فلغة التَّكوين الاثني هي حامل ثقافته، وموئل ذاكرتها، وأيُّ «تهميش» لها إنما ينطوي على خطر ساحق ماحق، ليس عليها وحدها، بل وعلى الاستعراب ذاته! وأوَّل سبل الرَّشاد للخروج من هذا المأزق يبدأ باعتراف الجَّماعة المستعربة المسلمة بـ «استقلال» هذه اللغات والثَّقافات، بدلاً من مواصلة السَّعي، بلا طائل، لـ «صهرها» فى «بوتقة» ما، فتلك خطة نازيَّة/فاشستيَّة يجدر الابتعاد عنها! كما ويبدأ بإقلاع انتلجينسيا «الهامش» نفسها عن النُّواح على ظلامات أهلها الثَّقافيَّة واللغويَّة، والتَّشمير، بدل ذلك، عن ساعد الجِّد لوضع أبجدَّيات للغاتهم القوميَّة، تمهيداً لتدوين ثقافاتهم الشَّفاهيَّة، واستخدامها في التَّعليم العام ودفعها على طريق التَّطوُّر والازدهار، فما من أحد غير هذه الانتلجينسيا يمكن أن توكل إليه هذه المهمَّة.
الجُّمعة
لو عاد شكسبير من موته مراسلاً للبي بي سي في بلادنا، ووقف ينظر، نهار 30 يونيو 2021م، من فوق أعلى بناية في الخرطوم، لقال: «بعض الشَّارع يمينٌ ضربته الشُّرطة، وبعضه يسارٌ ضربته الشُّرطة؛ ثمَّ لأردف على طريقته الفلسفيَّة: «أيُّهما توحَّد، الشَّارع أم الشُّرطة؛ هذا هو السُّؤال»!
السَّبت
عندما وقعت أحداث يوليو 1971م التي تقترب، الآن، حثيثاً، ذكراها الخمسون، كنت أقضي سنواتي الجَّامعيَّة في بلاد «تموت من البرد حيتانها»، على قول الطَّيِّب صالح. ولعل استقبالي أخبارها، في فضاء غربتي الفادحة تلك، كان بين العوامل التي شحنت دواخلي بعاطفة استثنائيَّة تجاهها، أو ما ظللت اعتبره جانب «الوعي الشِّعري» لديَّ بها كملحمة بطولاتٍ أسطوريَّةٍ شديدة الفرادة. مع ذلك، ظلَّ يلازمني، من جانب آخر، اهتمام «عقلاني» بتفاصيل وقائعها، ينمو، مع كرِّ مسبحة السَّنوات، ويكبر. وربَّما كان إلحافي في طرح المزيد من علامات الاستفهام، عاماً بعد عام، هو بعضٌ من تمظهرات هذا الاهتمام؛ وكم في يوليو من علامات استفهام تذهل العقول، وتحيِّر الألباب!
إحدى أهمِّ هذه العلامات إصرار شهود تلك الأحداث على عدم البوح بما ليس من حقِّهم كتمانه! وما أكثر هذه النَّماذج، سواء في العمل العام، أو في العلاقات الشَّخصيَّة، دع ما في سطور بعض السِّيَر والمذكِّرات والإفادات! خذ، مثلاً، هذا النَّموذج الذي وقفت عليه بنفسي، من جهة، وعرض له د. احمد طراوة في بعض المواقع، من جهة أخرى. ففي «قسم المعاملة الخاصَّة» بسجن كوبر، عام 1975م، حدَّثني صديقي عبد العظيم سرور، يوم كنَّا نزيلي زنزانة واحدة، عمَّا جرى في «بيت الضِّيافة»، بعد ظهر 22 يوليو، نافياً، بالقطع، اتِّهام العسكريِّين الشِّيوعيِّين بارتكاب تلك المجزرة؛ لكنه، عندما أصدر كتابه، بعد سنوات من ذلك، انقلب ينسب الأمر لهم! أمَّا د. طراوة فقد كتب يقول: «تحدَّثت مع شخصين مِن النَّاجين بأعجوبة من الموت في بيت الضِّيافة، أحدهما في السُّودان، هو عثمان كنب، زوج زينب الصَّاوي التي هي بمثابة جدة بنتي رزان طراوة، امَّا الآخر ففي مسقط، وهو الكيميائي محمد الحسن منصور الذي كان بسلاح الذَّخيرة والمفرقعات. وقد دار بيني وبينهما الحوار التَّالي:
س: هل الذين قَتلوا النَّاس في بيت الضِّيافة شيوعيُّون بتوجيه من الحردلو واحمد جبارة؟!
ج: لا، ما شيوعيين.
س: طيِّب .. ديل منو؟!
ج: معليش يا دكتور! نحنا النَّاجين تعاهدنا على المصحف ألَّا نذكر اسماء الاشخاص الذين فعلوا ذلك»!!!!!
الأحد
كنت أظنُّ أن «النَّصَّ اللغويَّ» الأكثر تعبيراً عمَّا يمكن تسميته «ما بعد الاستحالة»، هو «البحث في غرفة مظلمة عن قطَّة سوداء غير موجودة فيها أصلاً»! أمَّا «النَّصُّ البصري» الموازي فقد كان «معرض ألواح الثَّلج الملوَّن» الذي دعانا صاحبه لمشاهدته، في منتصف السَّبعينات، حتَّى أن من جاءوا، بعد افتتاحه بنصف ساعة، وجدوه قد ذاب! إلى أن طالعت، مؤخَّراً، خبر الإيطالي سلفاتوري غارو (67 عاماً) الذي زعم أنه توصَّل إلى إعادة تعريف جريئة لمعنى الفن، في حين أنه لم يتوصَّل سوى إلى «ما بعد، بعد، بعد، بعد الاستحالة» .. كيف؟! أقام معرضاً لمنحوتة «غير مرئيَّة»، ومع ذلك باعها بأكثر من 15 ألف يورو (!) فلا المشتري رآها، ولا البائع نفسه! هل تذكرون حكاية الرَّجل الجَّائع الذي لم تكن لديه سوى قطعة خبز أكلها على نكهة شواء منبعثة من مطعم في الجِّوار، فما كان من صاحب المطعم إلا أن طالبه بثمن تلك النَّكهة؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.