مليونية الثلاثين من يونيو في السودان: دلالاتها وآفاقها (1-2)

0 66
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لبعض الأيام حمولة تاريخية لا تقع لغيرها. ومنها يوم التاسع عشر من ديسمبر في السودان. فهو يوم إعلان استقلال السودان من داخل مجلس النواب في 1955. فاجتمعت الأحزاب في ذلك اليوم على ذلك الإعلان بينما كانت اتفاقية الحكم الذاتي بين بريطانيا ومصر (1953) ألزمت بأن يجري استفتاء ليقرر السودانيون به الوحدة مع مصر أو الاستقلال. وكان فريقاً واسعاً من السودانيين لا يرغب في استفتاء قد يؤدي للوحدة مع مصر التي كان له عداء تاريخي معها. وتواثق السودانيون على اسقاط الاستفتاء طلباً للوحدة الوطنية. ثم انفجرت ثورة السودان المستمرة في 19 ديسمبر 2018. وصار اليوم استثنائياً في دلالاته الوطنية.
ومن هذه الأيام ذات الحمولة التاريخية الزائدة يوم 30 يونيو. وهو يوم زاخر بالتاريخ تداعت أطراف الحراك السياسي لثورة ديسمبر 2018 في قوى الحرية والتغيير (قحت) ولجان المقاومة قبل يومين للاحتفال بذكراه. فوقع فيه انقلاب الإنقاذ بقيادة عمر حسن احمد البشير في 1989 ليحكم السودان لثلاثة عقود. وتلاحظ مع ذلك أن نظام البشير أبطل الاحتفال به في سنواته الأخيرة. ثم دخل 30 يونيو التاريخ في 2019 في سياق المفاوضات النكدة بين قحت والمجلس العسكري الانتقالي الذي تولى الحكم بعد انقلابه على البشير في 11 إبريل 2019. فاستردت تظاهرات ذلك اليوم الحاشدة (مما يعرف بالمليونية) قحت لمائدة المفاوضات بعد أن كان استبعدها المجلس العسكري إثر خلاف عصيب حول ترتيبات الفترة الانتقالية. ففض المجلس التفاوض معها ليستقل بتلك الترتيبات بدونها.
لم تقبل القيادة العسكرية في قرارة سياساتها، ومن يومها الأول، بشراكة مدنية في الحكم بعد الثورة، أو مع قحت على وجه الخصوص. فانقلابها على البشير الذي روجوا له ك”انحياز إلى الشعب” مما يوصف بانقلاب “الفيتو”، أي أنه إما ألغي التغيير الذي نشدته الثورة، أو عطله. وحقيقة الأمر أن الانقلاب على البشير في 11 أبريل 2019 كان انقلابان في برنامج واحد. فكان الأول بقيادة الفريق أحمد عوض ابن عوف الذي قرر تكوين مجلس عسكري يتولى الحكم لعامين، وإعلان الطوارئ ومنع التجوال لفض الثورة التي كانت جموعها في اعتصام منذ 6 أبريل حول قيادة القوات المسلحة بالخرطوم. ولم يصمد ذلك الانقلاب سوى ليوم واحد ليستقيل ابن عوف تحت ضغط الحراك ويتولى الأمر من بعده الفريق عبد الفتاح البرهان، المفتش العام للجيش في 12 إبريل.
ودخل المجلس العسكري في أثر ذلك التغيير في تركيبته في تفاوض مباشر مع قحت. وتوافدت لتسهيل ذلك التفاوض منظمات مثل الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة ودول غربية في كتل أو فرادي. وبرز في الوساطة أبي أحمد، رئيس وزراء أثيوبيا. وكانت عقدة المفاوضات هي مطلب قحت أن تكون الحكومة مدنية خالصة بينما أراد المجلس العسكري دوراً مؤثراً للجيش في مفاصل الحكم. ولتعزيز موقفه في التفاوض سعى المجلس العسكري لقوى سياسية من خارج قحت لاستيعابها في هياكل الحكم الجديدة مواظباً على اتهام قحت بإقصاء غيرها من التفاوض. فتجده يجتمع برجال الإدارة الأهلية من أعيان القبائل، ومشائخ في الطوائف الصوفية، وجماعة الوعاظ وشيوخ خلاوي القرآن. ولإفحام قحت ظل المجلس العسكري يلوح بأن الحل في انتخابات مبكرة تكون بها الشرعية لمن يأتي بهم الشعب.
من الجانب الأخر كانت قحت تعزز مواقفها التفاوضية بالشارع السوداني. وجاء 30 يونيو في سياق ذلك التعزيز. فسبق لها تنظيم “مليونيات” جماهيرية عند كل منعطف تحرج موقفها في التفاوض إما بتعليقها هي للحوار مع العسكريين، أو بتعليق العسكريين له، أو لتقوية مطلب من مطالبها في مدنية الحكم. فنظمت مليونية 29 أبريل 2019 احتجاجاً على تعليق العسكريين للحوار. ودخلت في عصيان مدني في آخر مايو 2019 بعد ايقاف العسكريين للحوار حتى تفض قحت اعتصامها حول القيادة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.