أميرة الحكيم .. فلاش باك .

0 63

كتب: فايز السليك

.

يتذكر كثيرون مساحات التشويق والاثارة التي اشتهرت بها صحافة الجبهة الإسلامية القومية خلال فترة حكم السيد الصادق المهدي في الفترة من عام ١٩٨٦ وحتى ١٩٨٩٨، كانت صحف ” ألوان” و ” الراية” و” حلمنتيش” وغيرها من الصحف التابعة تضح بعناوين مثيرة، وينتظر قراء تلك الصحف كلمات حسين خوجلي، والراحل محمد طه محمد أحمد، بشوقٍ بقدر حرارة الحروف الخارجة طازجة من المطبعة.

تصدرت قضايا الانفلات الأمني والجريمة والصراعات القبلية والنهب المسلح في دارفور هي الولائم الدسمة التي تغذي صفحات صحف ” الأكشن” وكثير من الكتابات الفضائحية، التي تسم ما يعرف بالصحف الصفراء، أو صحف ” التابلويد”.

وظلت الصحافة تتسابق في إيجاد موادٍ تثبت فشل حكومة السيد الصادق، وكلما وجدت مادةً خبرية ملأتها تشويقاً واثارةً؛ وللإسلاميين تاريخٌ مشهودٌ في صناعة الدراما باختلاق قصص، وتهويل بعض فصولها، واضافة كثير من “البهارات” بغرض الاثارة ولفت الانتباه والتشويق كالحديث عن بطولات ومآثر ” المجاهدين” في كابول، مع أنهم كانوا يتحركون تحت ظلال نيران المدفعية الأمريكية وطائراتها لمحاربة قوات الاتحاد السوفيتي الشيوعية أيام الحرب الباردة!.

لكن للحقيقة، فقد بنوا حكاياتهم على قصصٍ حدث بعضها في وضح النهار، و مهما كانت الأجندة الإسلامية حينها، إلا أن الحكومة هي التي فتحت ثغرات دفاعية لتسلل القوى الهجومية واحراز أهداف في مرمى التجربة الحزبية، أو فلنقل الديموقراطية الإجرائية.

كانت قصة الطالبة أميرة الحكيم، أحد أبرز فصول الاثارة والحبكة الدرامية حينها، ولأميرة ما يجعلها بطلةً للمشهد، فقد تم اختطاف طالبة من الشارع العام وفي منتصف النهار، كانت ترتدي ملابس المدرسة وتحمل معها شنطتها وهي طريقها الى بيت أسرتها.

وبطل القصة الخاطف ” المتهم كان فرداً في قوات نظامية، ” يقود ” دراجة نارية ” يخطف شابة حسناء في وضح النهار، على طريقة أفلام ” هوليود” . تلك قصة بقيت في ذاكرة السودانيين حقباً طويلة وستبقى، وللمصادفة كان اسمه عبد الصادق، لتكتب الصحف أن أميرة الحكيم بين الصادق وعبد الصادق.

ولتطابق الأسماء مفارقة وصدفة وأقدار في تلك الأيام المشحونة، ففي مساء شتوي بارد، وفي يناير ١٩٨٨، يطل رجلٌ غريب في سحنته وملامحه، وتصادف أن اسمه مهدي الحكيم! ويا للغرابة! مهدي وعبد الصادق والصادق والمهدي والحكيم!

ومهدي الحكيم هذا جاء من لندن بدعوة من ” الجبهة الإسلامية القومية” إلا أن مسلحاً يغتاله في داخل فندق ” هيلتون” وهو فندق كان وقتها يستقبل ضيوف الدولة، والزائرين المهمين والأثرياء والوجهاء.

من الطبيعي أن تكون حادثة اغتيال ” الحكيم” الزعيم الشيعي العراقي، في الخرطوم، حدثاً فريداً وجاذباً للصحافة دونما شك، وبالطبع سيكون الأمر أكثر تشويقاً لصحافة لا يحمل كتابها ” أقلاماً ” بل كانوا يحملون محافيراً تنقر على الأرض بقوة كي تحفر قبراً للتجربة الديموقراطية الضعيفة والهشة، وهي في المهد صبية.

وللجبهة الإسلامية أجندتها التي تسعى لوأد التجربة وتمهيد المشهد لانقلابها العسكري، ولم يكن الأمر عصياً على أقلام تصنع وتسوق لأساطير المضللين على طريقة ” أكشن”.

فهي ذات العقول التي صنعت فيما بعد برنامج ” ساحات الفداء” في غابات جنوب السودان كأنها حقيقة وهي الآلة الدعائية الخبيرة في صناعة وضخ حكايات مشاركة القرود في حرب الجنوب، ومثابرتها في عملية إزالة الألغام من طريق الجنود، وروايات الغزالة المسلمة التي تأتي وديعةً خفيفةً، تناجي المجاهدين وتستلقي على ظهرها، وتقول لهم مولولةً ” أذبحوني اذبحوني أيها المجاهدون فأني الى بطونكم مشتاقة”، بل، وتزرف سخين الدمع حزينةً عند عزوف ” المجاهد رقيق القلب، رهيف الشعور” كي تستدر عطفه ويستجيب للنداء، فيضطر مجبراً لا بطل؛ كي يذبحها بسونكي بندقيته التي لا تتردد في اطلاق حمم الموت على البشر هناك مدنيين وعسكريين!.

وما أشبه اليوم بالبارحة! الانفلات الأمني والصراعات الدموية في عدد من أطراف البلاد، مع انتشار مظهر قوات مسلحة تشارك في عملية ترويع المواطنين بدلاً عن نشر الأمن والطمأنينة في النفوس المشحونة بالتوتر والغضب، بسبب الانفلات الأمني والضائقة الاقتصادية.

يمكن أن تساهم عوامل كثيرة في اتساع دائرة العنف، منها وجود عدد من الفصائل المسلحة دون أن تخطو أطراف عملية السلام خطوات إيجابية تجاه البدء في عملية الترتيبات العسكرية والأمنية، ويمكن أن تساهم الضائقة المعيشية كذلك في زيادة معدل الجريمة.

لا نحتاج إلى طيف أو شبح أميرة الحكيم رحمها الله، بل يمكن ظهور عشرات الحالات، ودوننا جثة الفتاة التي وجدت داخل أحد مجاري شارع الستين بالمنشية، وسط أجواء محقونة بالتوتر، مليئة بالهواجس ونفوس مشحونة بالكراهية.

ولا يمكن اسقاط عامل تقاعس المكون العسكري في أداء دوره الأمني والعسكري، فثمة غيوم كثيفة من الشكوك حول تواطؤ جهات ” رسمية” في عملية الانفلات الأمني وانتشار الجريمة، وهو تواطؤ سببه وجود عناصر فاعلة من المنظومة القديمة داخل صفوف القوات النظامية وتعمل على إعادة عقارب الساعة للوراء.

اذكر خلال مظاهرات يوم ٣٠ يونيو ٢٠٢٠، تحركتُ عبر شارع أفريقيا، في جزءه المقابل لمطار الخرطوم الدولي حتى تقاطع شارع ( ٦١)، رأيتُ عشرات الشباب الذين كانوا يحملون أسلحةً بيضاء مثل ( السواطير) و ( السكاكين ) ويطاردون بعضاً من الشباب المشاركين في المظاهرات في الشوارع، كانوا أيضاً يهشمون الواجهات الزجاجية، ويسعون بوضوح لصنع حالة من الفوضى.

لمن تتبع هذه المجموعات؟ وما علاقتها بالأجهزة الأمنية؟ ولماذا تظهر هذه الجماعات أثناء أوقات التوتر، أو التظاهر؟ هل هم أفراد ذات مجموعات ظهرت عقب مظاهرات يوليو ٢٠١٢؟ سبتمبر ٢٠١٣؟ ثم بعد أحداث جريمة فض الاعتصام؟ أما السؤال المحوري فهو من يقف وراء هذه المجموعات؟

للحكومة بشقيها المدني والعسكري كذلك دورها في اتساع دائرة الجريمة، ليس عبر السياسات الاقتصادية فقط، ولا عبر التواطؤ، بل عبر قرار المجلس السيادي، وعلى رأسه العضوة المستقيلة الأستاذة عائشة موسى السعيد.

لقد أطلقت الحكومة سراح حوالي ٤١٧٣ من المساجين، تحت مبرر جائحة الكورونا، في مارس ٢٠٠٠، وشملت قائمة المطلق سراحهم مسجلي خطر من أصحاب السوابق، ومن المحكومين في قضايا جنائية مثل المخدرات والاغتصاب والسرقات. ويكون السؤال هنا، هل عاد جميع هؤلاء الى ممارسة حياتهم الطبيعية؟ بالطبع هناك من وجد القرار فرصةً طيبةً لبداية حياة جديدة، مثلما لا تخلو القائمة من بعض الأبرياء، أو من غرر بهم ساعة ضعف.

يجب أن يدرك الشق المدني من الحكومة وقوى الحرية والتغيير وشباب الثورة، أن حالة التفلت الأمني ستكون مثل ” كعب أخيل ” في مؤسسات الانتقال، يكبر ويتسع ويتعمق بسبب الضائقة الاقتصادية، ومن حالة السيولة السياسية والأمنية.

من المؤكد أن فترات الانتقال في كل العالم تمر بحالات من الشد والجذب، المد والجزر، الكفر والفر مع عناصر الحرس القديم الذين يسعون إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واسترداد حكمهم الذي ركلته الشعوب في ثوراتها.

تتداخل عوامل الأمن والاقتصاد والأداء الحكومي فيما بينها وينعكس ضف أي من هذه العوامل على عملية الانتقال، لدينا تجارب عديدة من حولنا أبرزها تجارب ثورات الربيع العربي قبل عشرة أعوام، وفي تجارب الثورات الملونة في شرق أوروبا قبل أكثر من عشرين عاماً.

وأشار تقرير صادر عن معهد السياسات الأوروبية ” يوربيوم” والمنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، حول تجارب الثورات الملونة إلى تأثير الإصلاحات الدستورية، وتوقيت الانتخابات، ونظام إجرائها، على عملية الانتقال.

لكنه لم يسقط عوامل سياقية او ناعمة أخرى مسؤولة عن إبطاء أو تعطيل عمليات الانتقال الديمقراطي. هناك عوامل سياقية كاستمرار النزاع المسلح، والأزمات الاقتصادية، والثقافة السياسية الخاصة بالدولة.

نحتاج للخروج من هذا النفق إلى قوة إرادة، وإلى إصلاح الأجهزة الأمنية والعدلية والشرطية وتوحيد قنوات صنع واتخاذ القرار السياسي، و تؤكد المؤشرات أن المعادلة الحالية سوف تستمر مختلةً ما لم يحدث اختراق سياسي كبير، يؤدي إلى قيام مجلس تشريعي فاعل، لا مجلس ديكوري.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.