“أوروبا القلقة”
كتب: د. عمرو حمزاوي
.
شاركت منذ أيام قليلة في نقاش مع عدد من الباحثين الأوروبيين والأمريكيين حول التحولات السياسية والاجتماعية في أوروبا. ذكر أحدهم أن المواطنين في دول الاتحاد الأوروبي صاروا يتوزعون إلى أغلبيات يحركها الخوف من الحاضر والمستقبل وتستسلم لمقولات الكراهية التي يروج لها اليمين المتطرف وأقليات تريد الحفاظ على الحرية وتبحث عن قوى سياسية تقدمية تعبر عن آمالها في مجتمعات منفتحة وعادلة.
انهالت الاعتراضات على الرجل هادئ الطباع ما أن توقف عن الحديث وجرت في مجملها باتجاه تفنيد إدانة الأغلبيات كوقود بشري لنيران اليمين المتطرف. جاء الاعتراض الأول من باحث اجتماعي بولندي شدد على أن الناخبين في بلاده أعطوا اليمين المحافظ والمتطرف أغلبية برلمانية بعدما صبروا طويلا على الأحزاب اليسارية والتقدمية التي أخفقت في تقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتوترات المرتبطة بعضوية الاتحاد الأوروبي وقضايا كالهجرة واللجوء. قال، في بلادي لم تصوت الأغلبية لليمين حبا في مقولات الكراهية أو طلبا لمجتمع «يطهر» من الأجانب، بل صوتت له لأن اليسار لم ينتج سوى عموميات عن ضرورة مواصلة السياسات الإنسانية والالتزام بالاندماج الأوروبي ولم يتناول بجدية المعاناة الاقتصادية والاجتماعية للناس. قال، ولو كان اليسار تبنى أفكارا سياسية شجاعة كرفع الحد الأدنى للأجور وإعادة النظر في النظم الضريبية التي تحابي الأغنياء وتلقي بالعبء الضريبي الأكبر على عاتق الفئات متوسطة ومحدودة الدخل لتغيرت نتائج الانتخابات.
وظفت قاضية فرنسية الملاحظة بشأن عجز اليسار عن تبني أفكار سياسية شجاعة لكي تعرج على الاحتجاجات الاجتماعية المتكررة التي تشهدها فرنسا ولتدلل على أن قطاعات واسعة بين مواطنيها لم تعد تشعر بأن السياسة الرسمية والأحزاب المشاركة بها يمينا ويسارا تمثل المصالح الحقيقية للناس وتدافع عنها وتضطلع بترجمتها إلى قوانين وسياسات قابلة للتنفيذ. قالت، طبقت حكومة ماكرون في سنواتها الأولى سياسات اقتصادية واجتماعية (فرض ضرائب جديدة على الوقود مثالا) تنتقص من حقوق متوسطي ومحدودي الدخل وفعلت ذلك في لحظة مجتمعية تتسع بها الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتتحول بها أطراف المدن الكبيرة (باريس نموذجا) لقنابل موقوتة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا. قالت، ليست الاحتجاجات الاجتماعية المتكررة سوى «احتجاجات خبز» تقليدية كتلك التي تشهدها بلدان العالم النامي ولم يكن العنف الذي شهدته غير ترجمة مباشرة لليأس من أن تستمع السياسة الرسمية أو أن تستمع القيادات الحزبية والبرلمانية إلى أنين الناس إن هم لم يخرجوا بصخب إلى الفضاء العام.
قالت، فسياسة اليوم وساستها يرفضون التوقف عن محاباة الأغنياء وتهميش متوسطي ومحدودي الدخل تارة باسم مقتضيات الاندماج الأوروبي وضغوط العملة الموحدة وتارة باسم العولمة الاقتصادية وشروط المنافسة في الأسواق.
ومن القاضية الفرنسية انتقلت الكلمة إلى باحث إيطالي في العلوم السياسية يدرس حاليا صعود اليمين المتطرف والشعبوي والعوامل المجتمعية التي تدفع قطاعات مؤثرة من المواطنين لانتخابه. جاء التحليل متسقا مع عجز الأحزاب المشاركة في السياسة الرسمية عن تبني أفكار شجاعة توفر وإن القليل من الحلول الحقيقية للأزمات القائمة. قال، في إيطاليا يتواكب التدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والاستدانة الحكومية مع فوارق في الدخل تزداد بعنف بين الأغنياء والفقراء ومع ضغوط اجتماعية بفعل تحديات الهجرة واللجوء من جهة والمنافسة الأوروبية ـ الأوروبية في سوق العمل.
اليوم، ترى العاملة أو الموظفة الإيطالية متوسطة الدخل قدرتها على الحفاظ على نمط حياتها وحياة أسرتها تنهار وتتنافس في سوق العمل مع عاملات وموظفات من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى وتلمح التوترات المجتمعية بفعل الفقر والبطالة والهجرة في ازدياد. قال، وإزاء كل ذلك لم تقدم الأحزاب السياسية التقليدية في اليمين واليسار غير استجابات خائفة وجزئية ولم تقو على سبيل المثال على طرح أفكار كفرض ضرائب إضافية على الأغنياء والالتزام بتوجيه العائد إلى الفئات متوسطة ومحدودة الدخل. بل ترك الأمر برمته جانبا حتى جاءت الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية، وادعت تبنيها لأفكار للعدالة الاجتماعية ومزجتها بمقولات كراهية ضد الأجانب وضد الاتحاد الأوروبي وبمقولات تستحث النعرات الوطنية، وبذلك المزيج حققت نجاحاتها المتتالية في صناديق الانتخابات.
اختتم مؤرخ ألماني النقاش بملاحظات حول احتجاجات الأوروبيين ومدلولاتها. عرف بنفسه سياسيا قائلا إنه من ناخبي الحزب الاشتراكي الديمقراطي ويساري من يساريي الحركات الطلابية في 1968، ثم نأى بأفكاره بوضوح عن تعميم الاتهامات للأحزاب التقليدية في اليمين واليسار بالعجز عن تبني أفكار سياسية شجاعة. قال، تواجه الأحزاب التقليدية تحديات كبرى ترتبط بتراجع الأهمية المجتمعية للقطاعات السكانية التي اعتادت تمثيلها. فالحركات والنقابات العمالية التي ولد اليسار الأوروبي من رحمها لم تعد ما كانت عليه حتى ثمانينيات القرن العشرين، والفئات السكانية متوسطة الدخل وقاطنة المدن تخلت عن رؤيتها المحافظة التي دفعتها لانتخاب الأحزاب المسيحية الديمقراطية وغيرها من أحزاب اليمين التقليدي في النصف الثاني من القرن العشرين. يواجه اليمين واليسار تلك التحديات وتتشكل أحزاب سياسية بعيدا عن الوسط كاليمين الشعبوي واليسار الراديكالي وتنافس أحزاب جديدة على الوسط كالخضر بأفكارهم عن البيئة والمساواة الكاملة بين النساء والرجال، غير أن اتهام الأحزاب التقليدية بالعجز يتسم بعدم الدقة. قال، في ألمانيا جاءت أفكار التحديث الكبرى خلال العقود الماضية من الاشتراكيين الديمقراطيين والمسيحيين الديمقراطيين، حيث أقر الاشتراكيون سياسات كالحد الأدنى للدخل وتغيير النظم الضريبية للحفاظ على دولة الرفاهة الاجتماعية والإبقاء على خدمات التعليم والرعاية الصحية المجانية بينما تبنى المسيحيون الديمقراطيون سياسات الاندماج الأوروبي من العملة الموحدة إلى ضم الأعضاء الجدد في شرق ووسط القارة.
قال، في المقابل لا تفعل الأحزاب الأخرى سوى الترويج تارة لمقولات الكراهية والخوف وثانية لمقولات فتح الأبواب للمهاجرين واللاجئين دون قيود وثالثة لمقولات عن البيئة والمساواة بين النساء والرجال بينما تتجاهل الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء داخل المجتمعات الأوروبية والفجوة الواسعة داخل الاتحاد بين الشمال الغني والجنوب الفقير. قال، أخيرا، إن اتصفت الأحزاب التقليدية اليوم بشيء من الابتعاد عن قطاعات سكانية مؤثرة وبتطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية غير ملائمة (حكومة ماكرون نموذجا) وبالتخاذل عن تطبيق سياسات ضرورية مثل الضرائب الإضافية على الأغنياء (الضريبة المقترحة حاليا في ألمانيا على الميراث مثالا) إلا أن احتجاجات المواطنين في الشارع واحتجاجاتهم في صناديق الانتخابات بالتصويت لليمين المتطرف والشعبوي حتما ستعيد الأحزاب التقليدية إلى دوائر الفاعلية السياسية وتدفعها إلى تبني الجريء والشجاع من الأفكار. ففي ذلك سبيل البقاء الوحيد لها ومسار الإنقاذ الممكن للديمقراطيات الأوروبية. اليوم، صارت أوروبا قلقة مثلما كانت بين الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين.