أين كان الحاردلو وجبارة يوم 22 يوليو 1971؟

0 162
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تُرفع الشبهة في التحقيق الجنائي عمن وثَق لغيابه عن مسرح الجريمة توثيقاً لا مطعن بعده. ولا أعرف من تحرى مواقع من اتهموا بمذبحة بيت الضيافة في يوم 22 يوليو 1971 مثل الرائد (م) عبد الله الصافي، المشارك في انقلاب 19 يوليو، في كتابه المتعة “شهادتي للتاريخ”. فأدخل نهجاً روتينياً في التحريات الجنائية لم يقع لنا في تعيين المتهمين بقتل المعتقلين في بيت الضيافة. وهو نهج يتحقق به المتحري إن كان المتهم بمسرح الجريمة وقت وقوعها لكي تتلبسه التهمة.
اضطرب الرواة ممن سألهم الطاهر حسن التوم في برنامجه المهني “مراجعات” أو عبد الماجد بوب في كتابه “19 يوليو: إضاءات ووثائق” حول من قام بضرب الضباط والجنود المعتقلين في البيت. ومعروف أن التهمة حامت حول اثنين من رفاقنا الضباط هما الملازمان أحمد جبارة وأحمد عبد الرحمن الحاردلو. ومن أقوى الشهادات إدانة لهما ما جاء على لسان العميد عثمان حسب الرسول وهو ممن نجوا من الموت في البيت. فقال إنه دخل عليهم الملازمان بعد سماع طلائع الدبابات القاصدة بيت الضيافة (وهي دبابات القوة الثالثة في تقديرنا). فصرف جبارة الأمر للحاردلو بضربهم. فتردد الحاردلو قليلاً فوجه جبارة له الكلاش وقال له إما ان تضربهم أم أطخك. ففعل. وكانت النتيجة أن أصيب العميد عثمان بجراح كبيرة وصفها.
وتجد من الجانب الآخر العميد المقدم عثمان كنب، قائد كتيبة جعفر والناجي من ضربة البيت، في مقابلة مع عبد الماجد بوب (2 يونيو 2000) يقول بأنه لم ير أحمد جبارة طوال صباح وظهر 22 يوليو. وكان الحاردلو قائد الحراسة عليهم جالساً على كرسي حتى ما بين الثالثة والنصف والرابعة. وسئل إن كان صوت من أمر بضربهم وقتلهم هو صوت الحاردلو قال “والله منو ما بقدر أجزم”. ثم أكد ذلك بعد إلحاف السائل على السؤال “ما بقدر أجزم كده واللا كده”. وسئل إن كان هو صوت أحمد جبارة الذي كان اعتقله من كتيبة جعفر إلى بيت الضيافة. “لا ما سمعتو. انا أحمد جبارة ما سمعتو. مرة واحدة اتكلم معاي بعد اعتقالي لكن في تلك اللحظة ديك. ما سمعتو”. وسئل هل تجزم بأن من أصدر الأمر بضربكم هو أحمد جبارة قال: “لا ما هو. شوف دا ما بينتظر يدي تعليمات. ده بيكتل براهو”.
فأميز ما في كتاب الرائد الصافي أنه عيّن أين كان كل من أحمد جبارة والحاردلو في الزمان والمكان حين وقعت المذبحة. وهذا نظر مهني في التحقيق الجنائي. فلا يمكن للمرء أن يرتكب جريمة لم يكن في مسرحها. فأنتهى بسؤال زملائه ممن كانوا معه بالمعتقل بعد فشل الانقلاب وخلص إلى أنه لم يكن أياً من الضابطين ببيت الضيافة ساعة تمت المذبحة. وسنعرض لما جاء في الكتاب عن مواقع الحاردلو وجبارة بعد ظهر 22 يوليو:
الملازم أحمد جبارة: لم يكن موجوداً بمباني الحرس الجمهوري لحظة اندلاع القتال. كان استأذن العميد أبو شيبة، دينمو الانقلاب، ليذهب إلى بيتهم في الخرطوم بحري. وعاد بعد سمعه إطلاق نيران دبابات الانقلاب المضاد. ووصل إلى مركز الحرس الجمهوري في الرابعة ظهراً أو قبلها بقليل. وفي الرابعة اتصل بصديقه الملازم عصام الدين ميرغني طه صاحب كتاب “الجيش السوداني والسياسة” وطلب منه أن يرسل أحد جنوده لإحضار الضابط المناوب في سرية الحرس الجمهوري المجاورة لمعسكر عصام ليتحدث إليه بتلفونهم. فلم يكن لجبارة طريقة وقتها للاتصال المباشر. وكان يريد من الضابط الذي طلب الحديث معه إرسال ذخيرة للتزود للمواجهة. وقال عصام في كتابه إنها كانت مفاجأة له أن جبارة لا علم له بتفاصيل الحادث في بيت الضيافة وهو في قيادة الحرس الجمهوري، القوة الأساسية في انقلاب 19 يوليو. وشهد الرائد أحمد الحسين الحسن، من انقلابي 19 يوليو، أنه هو من كلم جبارة عن المذبحة في غرفة الاعتقال.
الملازم أحمد عثمان الحردلو: من ضباط القيادة الشرقية بالقضارف. جاء به قدره للخرطوم مساء 19 يوليو في مهمة رسمية وصادف الانقلاب. ولصداقته للملازم أحمد جبارة نزل معه في ميز الحرس الجمهوري بالقصر. ولما قام الانقلاب كلفوه بحراسة المعتقلين. استلم الخدمة من الملازم مدني على مدني (الذي له شهادة وافية عن تلك الأيام على الإنترنت) في بيت الضيافة يوم 22 يوليو. وغادر الحاردلو البيت ظهيرة يوم 22 يوليو بعد انهمار النيران عليه. واعتقل في يوم 23. وجرت محاكمته أمام العقيد تاج السر المقبول. وشهد الشهود من الناجين من المقتلة مثل النقيب عبد الحي محجوب والنقيب مامون حسن محجوب أمام المحكمة أن الحاردلو لم يطلق النار عليهما. وسعى الرائد الصافي بعد خروجه من السجن إلى النقيب مامون ليتأكد من شهادته. ولم ينجح في لقائه. ولكنه تلقى منه رسالة تفيد ببراءة الحاردلو من التهمة. وحكمت محكمة العقيد المقبول ببراءة الحاردلو من تهمة القتل وقضت بسجنه 3 سنوات للاشتراك في الانقلاب. وعدّل نميري الحكم للإعدام بدون الرجوع للمقبول الذي رفض أن يستجيب لطلب نميري تغيير الحكم. وحتى الحاردلو الذي كان بمسرح الجريمة غادره قبل وقوعها إلى مكان آخر.
أكتفي بهذا القدر. فلربما شك القارئ بعد هذا كله في رواية الرائد الصافي عن وجود الملازمين بعيداً عن بيت الضيافة أو عن الجريمة. فالصافي شاهد ملك لو صحت العبارة. لكن لن يملك القارئ إلا تثمين اجتهاده في التحقق من وجود المتهمين في مسرح الجريمة وأفعالهم. فحتى لو لم نأخذ بما توصل إليه من مواضع وجود الملازمين فلابد أن نطلب في التحقيق المرجو حول هذه الواقعة المأسوية إتباع أصول التحقيق ولا نتخرص. وقد توقفت عند شهادة العميد عثمان حسب الرسول الذي جمع في مشهد القتل الملازمين بما يشبه ضرب عصفورين بحجر واحد. وهذا مما يدعو للشك في قيمة شهادته رغم عظم جراحه. فليس شهادة الضحية صحيحة بصورة مطلقة وتعلو على التحقيق فيها وفي غيرها.
وفي كلمة أخرى ننظر في شهادة رفيقنا الرائد عبد العظيم سرور التي قال بأن من قتل شهداء بيت الضيافة هما الحاردلو وجبارة من ضباط الانقلاب. وهي الشهادة التي يلوح بها خصومنا كالقول الفصل شهادة من أهله في إدانة الشيوعيين بالجريمة. وسننظر في رواياته الثلاث عن الواقعة وكيف تناقض فيها تناقضاً يطعن في روايته طعناً جدياً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.