إقتصاد تحت الإبتزاز!!

0 62

ليست هناك غضاضة في اتخاذ الحكومة لقرارات تعتقد بضرورتها للقيام بمسؤوليتها في إدارة دولاب الحكم، إلا أنه في الوقت نفسه فإن هذا ليس صكاً على بياض يؤهل السلطة لاتخاذ أي قرار كما تشاءدون أن تتوفر له الحيثيات الواضحة والمطروحة بشفافية ومسؤولية وخاضعة للمساءلة والمحاسبة. وما هو أخطر من قرارها تحريك سعر الصرف، هي الممارسة التي اكتنفته، فلو كان نتيجة لمشروع وطني محل توافق وتفويض شعبي، ووفق برنامج معلوم وخطة مدروسة للحكومة، وبإرادة وطنية خالصة لأمكن التعاطي معها، مهما كانت قاسية وذات عواقب وخيمة، بحسبانه اجتهاداً يؤجر فيه المجتهد أصاب أو أخطأ.
(2)
ولكن ما يؤسف له أن هذا القرار لم يكن وليد إرادة وطنية، بل كان استجابة غير مبررة من الطبقة الحاكمة لضغوط أجنبية مكثفة، عجزت الحكومة “المعزولة من قاعدتها الشعبية”، تحمّل وطأتها، أو لعلها لحاجة في نفس يعاقبتها أملته غواية السلطة، لتخضع لعملية ابتزاز دولية، لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، وها هي مسبحة الابتزاز الدولي تواصل حصد مكاسب الثورة الشعبية واحدة تلو الأخرى، لتحدث أغرب عملية سرقة في تاريخ الثورات أن تكون عاقبتها بدلاً من تحرر البلاد وتعزيز استقلاليتها ينتهي بها الأمر خاضعة بالكامل للأجندة الخارجية، فقد شهدنا ذلك الابتزاز الدبلوماسي بفرض التطبيع ثمناً للشطب من لائحة الإرهاب، والابتزاز المالي لبلد مفلس لدفع فدية غير مستحقة، والآن جاء الدور على الابتزاز الاقتصادي، ولا نلقي القول هنا على عواهنه.
(3)
لسوء حظ المسؤولين في الحكم اعتقادهم أن ما يسمعونه من مسؤولي المجتمع الدولي في اللقاءات المغلقة، سيظل حبيس جلسات التناجي تلك، وأن الضغوط التي يتعرضون لها ستبقى طي الكتمان، ولم يتعلموا أبداً أن أول من يعلن، أو بالأحرى، يفشي ما دار وراء الكواليس هم هؤلاء أنفسهم الذين توهموا فيهم الستر، فضلاً عن ذلك فإن أمر الضغوط الغربية على الحكومة لـ”تحرير سعر الصرف” كاشتراط لا مناص منه للحصول على “فتات” معونات أجنبية لم يكن سراً أبداً فقد سار بذكره الركبان، فما من مسؤول غربي على صلة بالملف أو سفير لهذه الدول في الخرطوم إلا وخرج مغرداً مطالباً بحتمية تحرير سعر الصرف كشرط لا تنازل عنه لتمكين الحكومة من التصرف حتى في الجزء اليسير من التعهدّات التي قطعوها على أنفسهم في مؤتمر برلين، وكانت وزيرة المالية السابقة تراهن على الحصول على نحو 1,6 مليار دولار منها، تمثل 90% من جملة التعهدات قبل نهاية العام المنصرم، وكانت النتيجة صادمة إذ لم يتم دفع سوى 10% فقط، وحتى هذه منع المانحون الحكومة من استخدامها قبل تحرير سعر الصرف.
(4)
جاء وزير الخزانة الأمريكي للخرطوم في يناير، وقالها بصراحة لا سبيل للاستفادة من التعهدات الأميركية بما في ذلك القرض التجسيري قبل معالجة سعر الصرف، وجاء مبعوث بريطاني وكرّر الأمر نفسه حين أعلن عن قرض تجسيري آخر، أما ثالثة الأثافي فكان ما صدر عن آخر اجتماع لأصدقاء السودان في برلين نهاية الشهر الفائت الذي طالبوا فيه الحكومة “بالالتزام بالتنفيذ السريع لمزيد من خطوات الإصلاح”، وشدّدوا على “الحاجة الملحة لمعالجة سعر الصرف دون مزيد من التأخير” هكذا دون مواربة، وزادوا باعتبار ذلك “شرطاً أساسياً لتقييم أداء السودان” من قبل الصندوق، وجعلوه “شرطأً للاستفادة الكاملة من الدعم المقدم من قبل الشركاء والمؤسسات المالية الدولية”، ولا حاجة لمزيد شرح.
(5)
هذه الحقائق كما تحدث على الأرض لا كما يتوهم المسؤولون ألا أحد غيرهم مطلع أسرارها، ولنفترض أن الحكومة ترى في هذا المسار أمراً لا مناص منه، فما الذي يمنعها من مصارحة الشعب بحقيقة الأمر، وأن تشركه في اتخاذ قرارها، وأنها ملتزمة باتفاق مع الصندوق، وما العيب في ذلك بدلاً من تكرار مثل تلك التصريحات الجوفاء والإدعاءات البائسة بأن هذا القرار اتخذته بملء إرادتها ودون ارتهان وخضوع لضغوط أجنبية، وهي تعلم أنها لا تقول الحقيقة، وكان الظن أن افتقار السلطة الحاكمة للشفافية ممارسة طارئة للحكومة السابقة، وها هي الحكومة الجديدة تسير على النهج ذاته في الاستهانة بالرأي العام والإصرار على الإمعان في استصغار شأن المواطنين.
(6)
وإن كان لاتفاق “الشراكة الإطاري المتبادل” بين الحكومة والشركاء في مايو الماضي بباريس، والذي فرض عليها مسار الإصلاح الاقتصادي وفق برنامج الصندوق، وجعل النجاح فيه شرطاً للحصول على أي دعم من الأصدقاء، من حسنة واحدة فهو مطالبته الحكومة بالتزام الشفافية والمساءلة والمحاسبية، ولكن تأبى الحكومة إلا أن تمارس “التلاعب المتعمد” بالرأي العام. أما جدوى هذا القرار فللقاء آخر إن شاء الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.