إلَى د . غَازِيّ : اسْتَدَار الزَّمَان كَهَيْئَتِه !

0 54
كتب: د. الواثق كمير 
.
إستدار الزمان كهيئته قبل إحدي عشرة عاماً تبادلت فيها رسائل كانت مهمة يومئذ مع الدكتور غازي صلاح الدين، ولعلها ما تزال مهمة اليوم، بل إن تماثل الموضوعات والقضايا بعد كل ذلك الوقت تبدو صادمة ولكن في التاريخ والسياسة لا توجد عبارة فات الآوان (it’s never too late). الدكتور غازي يَومَذاك في قمة قيادة نظام الانقاذ ويجلس علي أهم مواقعها وممسكٌ بأهم ملفاتها، بينما كنت، كما وصفت نفسي في الحوار الذي ابتدرته معه، مواطناً يبصر بعين البصيرة الخطر الذي يحدق بوطنه، قبل أن أكون عضواً في الحركة الشعبية أو رمزاً من رموزها. فقد كان الوضع السياسي حينذاك يشهد تجاذبات حادة واستقطابات متعددة الوجوه والاتجاهات، مما كان يستجدى الشريكين أن يسعيا بجدية لاستحداث منهج وآليات جديدة، وفق مفهوم مشترك “للشراكة”، للتعامل مع بعضهما البعض، من جهة، وبينهما وبين القوى السياسية الأخرى، من جهة أخرى، وذلك بإشراكها في الحوار حول كافة القضايا الوطنية المتصلة بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل.
لا أريد المزاودة أن الأحداث أكدت صواب الأطروحة التي دعوت اليها وأهمية الحوار الذي بادرت إليه من شدة وضوحها آنذاك والآن، بقدر ما أريد أن اذكر بالحكمة القديمة: التاريخ يعيد نفسه مرةً علي شكل مأساة وأخرى في هيئة كارثة.
فقد بعثت إلى د. غازي برسالة مفتوحة، نُشرت في العديدِ من الصحف وفي الأسافير، تطرقت فيها إلى القضايا التي ما زالت تؤرق العباد والبلاد تحت عناوين: مأزق التباعد في مواقف الشريكين والاستقطاب السياسي؛ ماذا يريد الشريكان للسودان؟ توحد أم تمزق؟؛ إشراك القوى السياسية والانتقال من التفاوض الثنائي للحوار الوطني؛ وحدة البلاد والتحول الديمقراطي: هل هناك فرصة لمساومة تاريخية؟ (الواثق كمير، وقفة مع النفس: هل نرغب في العيش سويا؟، سودانايل، 10 أغسطس 2009)
على رأس ما طرحته لغازي من مواضيع هو إشكالية العلاقة بين الدين والدولة على خلفية اتفاقية السلام الشامل وعلاقتها العضوية بمفهوم “الوحدة الجاذبة” الذي ابتدعته الاتفاقية. كان جوهر رسالتي أن الوحدة الجاذبة هذه في ظل نموذج “دولة واحدة بنظامين”، لن يُكتبُ لها النجاح طالما تمت مخاطبة ومعالجة قضية “فصل الدين عن الدولة” من خلال هذا المنظور، بل أن نتيجتها الحتمية هي “الفصل بين بلدين”. وربما الأهم، أن تعوِّيل المؤتمر الوطني على أن هذا الفصل سيجري كما تشتهيه نفسه، هكذا سَمْن عَلَى عَسَلٍ، للحفاظ على السلطة في الشمال مُنفرداً، وكأن هذا هو الوضع الطبيعي. ففي كلمة جماهيرية مشهودة، بمدينة القضارف في نهايات عام 2018، قال الرئيس المخلوع أنه “إذا اختار الجنوب الانفصال سيعدل دستور السودان وعندها لن يكون هناك مجال للحديث عن تنوع عرقي وثقافي وسيكون الاسلام والشريعة هما المصدر الرئيسي، وتاني ما في دغمسة”.
ختمت رسالتي لدكتور غازي في هذ الموضوع بأن نموذج الدولة الواحدة “بنظامين قانونيين” (والذي هو بمثابة بروفة “لدولتين بنظامين”) يمثل وضعاً يقِّرُ الانفصال نظرياً، لا ينفع معه صنع “الشربات من الفسيخ”، ولا ينتظر إلا الاستفتاء ليصير واقعاً (وحدس ما حدس). إن أمر العلاقة بين الدين والدولة يقع في صلب قضية الوحدة الطوعية، ولذلك يبقى الاشتباك حول أعراضها فقط، دون إرجاعه لأصله، مجرد دخان ترقد تحته نار، تصطلي بها البلاد الآن في ظرف انتقالي شاق وغير مسبوق. فإن كان د. غازي يدعو للحوار هذه المرة، فعليه أن يخرج بمبادرة واضحة القسمات يعرضها على القوى السياسية والمجتمعية للتداول بشأنها والتفاعل معها من أجل الانتقال ببلادنا إلى رِحاب دولة المواطنة الحقيقية، التي تكفلُ الحقوق المتساوية والمساواة أمام القانون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.