“الأمن مقابل المشروعية”!

0 69

كتب: د. خالد التيجاني النور

.

(1)
كما أشرنا في المقال السابق عند قراءة إفادات رئيس المجلس السيادي في حواره مع فضائية الحدث، فقد بدا السيد البرهان متفاجئاً من أن الأمور مع الولايات المتحدة “لم تسر كما كنا نعتقد بمجرد إيفاءنا بالمطلوبات التي طلبت منا” على حد تعبيره، لم يعدّد تلك الاشتراطات الأمريكية تحديداً لكنها بالطبع تبقى مفهومة في سياق ما كان معروفاً في باب العلم العام من مجريات العلاقات فيما يتعلق ببعض القضايا مثل تسوية التعويضات، والشطب من لائحة الإرهاب، ومنها ما هو بالضرورة أجندة مطروحة وراء الكواليس رشح منها موضوع “التطبيع” كشرط لازم لتحقيق ذلك.
(2)
بيد أن اللافت اعتبار البرهان أن الوعود بدعم الاقتصاد لم تتحقق، أو تسير بوتيرة بطيئة لا تتسق والتصريحات الأمريكية المتواترة بدعم الشعب السوداني في الفترة الانتقالية، هذا على الرغم من الحراك الذي شهده ملف كسر جمود علاقات السودان مع مؤسسات التمويل الدولية ما كان له أن يشهد أي اختراق كما حدث في مسألة خفض الديون لولا القرار الأمريكي برفع الفيتو عنها، ولذلك يبقى السؤال ما الذي كان يتوق له البرهان، أو يتوقع حدوثه من قبل الولايات المتحدة ولم يتحقق له بعد؟.
(3)
ما أثار استياء البرهان، واعتبره دليلاً على عدم حدوث تغيير في السياسة الأمريكية تجاه السودان، تلقيهم لمصفوفة أخرى من إدارة بايدن، وتتضمن بطبيعة الحال حزمة اشتراطات جديدة، ويبدو أنه كان يعتقد أن “الإيفاء بالمطلوبات” التي استجابوا لها كافية لتجاوز نهج المصفوفات التي كانت تقدم للنظام السابق، وبالتالي سيكون الطريق إلى واشنطن سالكاً.
وفي الواقع فإن هذه المصفوفة الجديدة ليست سوى امتثال لـ “قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية لعام 2020م”، الذي أجازه الكونغرس مطلع العام الجاري باشتراطاته المعروفة، والذي يطلب من وزارة الخارجية الأميركية تقديم استراتيجية تفصل متطلبات الدعم الأميركي للانتقال والحكم المدني.
لا شك أن الافتراضات المفعمة بالنيات الحسنة التي اندفع فيها العسكريون في السلطة الانتقالية يكشف قلة الدربة في التعاطي مع السياسة الخارجية، والخبرة في فنون إدارة العلاقات الدولية، ومن الدروس الأبجدية في هذا المجال أن الاستعداد العجول للاستجابة للمطالب والسعي لخدمة مصالح الطرف الآخر دون حساب هو آخر ما يصلح لتحقيق مكاسب، إذ لا أحد يدفع مقابلاً لما يحصل ليه مجاناً.
(4)
لقد بدا مثيراً للاستغراب أن المؤسسة العسكرية لم تتعلم شيئاً من تجربتها في ظل النظام الانقاذي، وقيادتها اليوم كانوا شهوداً فاعلين فيه، فهي لم تأت بجديد، فها هي تعيد تكرار اللعبة ذاتها “الأمن مقابل المشروعية” التي اتبعها في محاولة كسب ود واشنطن، حيث انخرطت منذ العام 2000م في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب وقدموا لها خدمات جليلة في هذا الخصوص، وتماهت مع السيناريو الأمريكي لإنهاء حرب الجنوب بتسوية قادت إلى تقسيم البلاد، ومع ذلك لم تظفر مقابل ذلك سوى المزيد من الضغوط، بإضافة عصا المحكمة الجنائية الدولية، ولا سر وراء ذلك فالسياسة الخارجية الأمريكية لا تخفي أنها تستخدم هذه الحزمة من الأدوات للضغط على الحكومات لتغيير سلوكها، وضمان استمرارها في خدمة مصالحها، وما حدث أن الإدارة الأمريكية استبدلت ورقة “لائحة الإرهاب”، بقانون “الانتقال الديمقراطي”، لذلك فإن توقعات العسكريين لم تكن في محلها ابتداءً، حيث تأسست على تمنيات لا تسندها حقائق الواقع، فهي لم تأت بسياسة جديدة لم يسبقها إليه سلفه، ولا أتت واشنطن بجديد، فسياستها كتاب مفتوح اتفقت أو اختلفت معها، ولا أحد يستطيع لومها إذا لم يحسن أحدهم قراءتها والتعامل معها.
(5)
والأمر نفسه ينسحب في شأن العلاقات “الغامضة” مع تل أبيب، فقد وصف البرهان واقعها الراهن بكلمات متحفظة افتقدت تلك الحماسة التي جرى بها تصوير دوافعها غداة لقاء عنتبي بأنها ستمطر منافع اقتصادية في بلد أصابه الجدب، ليقصر الأمر بأنه لا يتجاوز التعاون في الجوانب ذات الطابع الأمني والاستخباري ومكافحة التنظيمات “الإرهابية”، مشيراً إلى أنه لم يتم الشروع بعد في إجراءات خاصة بالاقتصاد.
وهو ما يفسر أن الاندفاع المحموم في هذا العلاقات متجاوزاً المشروعية الدستورية والأطر المؤسسية، فضلاً عن الافتقار لرؤية استراتيجية، انتهى بأن تكون علاقة ذات اتجاه واحد لخدمة المشاغل الإسرائيلية المعنية بقضية الأمن بذات الأولوية المعلومة في أجندتها، وأما الأجندة التي تخدم المصالح السودانية فلا حضور لها ببساطة لأنها غير معرّفة، ولا يستطيع أحد أن يطلب من الطرف الآخر أن يقوم بذلك بالنيابة عنه، أو لأن سقفها كان متدنياً للغاية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.