الاستعمار: لماذا تقدمت اليابان وتخلف غيرها

0 105
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تطابقت في ١٩ ديسمبر ذكرى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في ١٩٥٥ وثورة ديسمبر ٢٠١٨ بما يشبه توارد الخواطر اللماح. ومع ذلك فبين المناسبتين خصام. فتجد المتعلم خريج المدرسة التي أنشأها الإنجليز يعض بنان الندم على رحيلهم المبكر أو رحيلهم من حيث المبدأ. ومتي سألته (إن لم يكن ثورة مضادة) عن ثورة ديسمبر لأطنب في قيمتها الوطنية. وهذه شيزوفرانيا. فمن أين لثورة ديسمبر أن تقوم لو ظل الإنجليز فينا. فلو قامت لكان مصيرها مصير ثورة ١٩٢٤ أو أضل. فثورة ديسمبر هي إحدى تجليات إرادتنا الوطنية التي استعدناها بالاستقلال. وسيتناقض من عَدّ نفسه بين الناهضين (وفي أيامها الباكرة بالذات قبل القنوط منها) إن تمنى لو لم يرحل عن الاستعمار. وقد لا يصدق هذا المبتئس من الاستقلال أن أكثر أزمات ثوراتنا تنجم عن مثل هذا التعلق الباثولوجي بالاستعمار. فهو تعلق يحول دون الصفوة والاستثمار في التحضير لها فكراً تنبني عليه رؤية تخفف عليها الآم المخاض والنشأة وما بعده. وغياب الرؤية لما بعد سقوط الإنقاذ من أكبر المآخذ على أداء قحت في الدولة كما هو معلوم. والحق من أين لمثل هذا الذي تعلق قلبه بالإنجليز ابتناء رؤية للثورة والتغيير وهو الذي يعتقد أن الرؤية بدأت بالإنجليز وبهم ختمت: فالتعليم بخت الرضا والعمران مشروع الجزيرة والسكة حديد والحوكمة بخدمتهم المدنية التي لا تخر ماء. وولدوا عيال وبنات. وتمت ختمت في أست الصغير فينا.
من اعتقد أن نكسة بلده راجعة إلى رحيل الإنجليز عنا بصورة معجلة أو أبداً سيفاجئ بأن الستعمار هو سبب النكسة. وثوراتنا التي تكررت، لو أحسنا فهمها، هي ما نتدارك به بلاويهم فينا. فقد صمم الإنجليز فينا دولة للرعايا لا المواطنة. يكفي أنه لم تجر انتخابات، وهي شرط المواطنة، لنصف قرن من حكمهم تولى أمرنا فيها حكام مبتعثون من لندن. وهي نفس الدولة التي ورثها الجيل الوطني كما هي. ولم يتغير شيء: لم ننتخب حاكما علينا إلا لعشرة أعوام من ستين عاماً ونيف هي عمر استقلالنا. ومطلبنا من ثوراتنا كان وما يزال بناء الوطن على بينة المواطنة.
ضرب بازل ديفدسون، المؤرخ البريطاني لأفريقيا، مثلاً طريفاً في رد مثل محنتنا للاستعمار. فتساءل لماذا تقدمت اليابان وخاب مثلنا. وأجاب بقوله لأننا خضعنا للاستعمار بينما لم تخضع له اليابان. وقارن لبيان غرضة بين اليابان، التي تسرب إليها الغرب بصور شتى، وغانا الحديثة التي نشأت فيها صفوة غربية الثقافة خلال فترة الرق. فقال إن كلا البلدين تأثر بالغرب بصور مختلفة. وانتهى كلاهما في ١٨٦٧ إلى وضع دستور لدولتيهما مقتبس من تقاليد الغرب. ولا حاجة للقول إن اليابان تقدمت في حين تأخرت غانا مما يقاس إلا بالسنوات الضوئية. ولم يجد ديفدسون سبباً لهذه المفارقة سوى أن اليابان استمسكت بحريتها تتعاطى مع الغرب عن إرادة بينما خضعت غانا للاستعمار الإنجليزي الذي أجهض مشروعها لتكون على خطة الغرب بمبادرة واستقلال.
ومن أدل حقائق تملك اليابان لإرادتها في معاقرة الغرب أنها حَكّمت تراثها في الأخذ منه. وعلى تعرضها لديمقراطية الحقوق الفردية على نهج أمريكا وانجلترا إلا أنها اقتدت بألمانيا بسمارك لأن الإمبراطور والجيش هما عظم ظهر نظامها السياسي التقليدي كما كان في المانيا. واستصحبت اليابان تقاليدها في تصميم فلسفة التعليم. فتجدهم أخذوا من الغرب المهارات والحرف ولكن ظلت فلسفة التعليم تقليدية قيدته بخدمة الدولة كما كان في الماضي. فعلى أخذهم من الغرب إلا أن غاية التعليم ظلت هي حفظ “الجوهر القومي” لليابان المنافي لتعاليم المنفعية الغربية أو المادية المخربة. وفصّل الفرمان التربوي لعام ١٨٩٠ في طبيعة هذا الجوهر القومي. فحث على العودة إلى التقاليد المؤثلة حتى لا يضل الناس باتباع أفكار الغرب في الفكر والفلسفة الأخلاقية والسياسية. وجاء بقواعد ذلك الجوهر القومي وهي عبادة الأسلاف، والتقوى الأسرية، والامتثال لمن هو أكبر منك سناً، ومراعاة الواجب تجاه الدولة. وقال الفرمان إن تلك المعاني صالحة في الحاضر كما صَلُحت في الماضي الذي جاءتهم منه. ولكن اليابان مع ذلك أخذت بمبدأ الملكية الفردية الذي لم تعرفه من قبل لتغير نمط اقتصادها بتأثير الغرب. ولكن أهم جوانب استقلال هذه الإرادة اليابانية هو اصطراع اليابانيين أنفسهم حول إي نهج في الغرب يسلكون. فكان بينهم مثلاً من أراد لنظامهم أن يكون علي مثال أمريكا مثلاً لشدة تأثرهم بما اطلعوا عليه منه.
بيننا من يدعون لمثل فلسفة اليابان في الحفاظ على الجوهر القومي والثقافي. ولكن خلافهم عنهم أن اليابانيين حافظوا عليه من موقع دولة مستقلة بإرادة وطنية ونطمع نحن في الحفاظ عليه بعد أن عاس الإنجليز عوسهم فيه خلواً من تلك الإرادة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.