الاقتصاد السياسي للدعم

0 67

كتب: د. معتصم الاقرع

– أكاد ان اموت سأما من الكتابة عن قضية الدعم ولكني اضطر ان اعود اليها مرة بعد اخري لأنها اهم محاور الراهن السياسي/الاقتصادي كما انها تهدد مصير هذه الثورة وربما مصير وجود البلد كما نعرفه. كما ان الصمت المريب لقادة الرأي العام ومجلس الوزراء واختباءهم عن القضية بـالسكوت الداوي أحيانا واحيانا بإمساك العصا من المنتصف بتكنيك كل خيار له وما عليه يدفعني للعودة للمشكل ولكني سأفعل بأقصر اختصار ممكن.

– قبل تولي هذه الحكومة زمام الأمور أوضحت لدوائر نافذة في صنع القرار ان قضيتي الدعم و سعر الصرف سوف تشكلان التحديات الأكثر التهابا وخطورة لحكومة الثورة لذا يجب التعامل معهما بالمهارة والجديةالسياسية والفنية اللازمة. خلاصة ما ارتأيت ان التسرع بتصفية الدعم سوف يكون كارثيا علي الصعيدين السياسي والاقتصادي.

– بغض النظر عن وجاهة الدعم من عدمها باعتبارات الاقتصاد إلا ان الرفع م المتسرع سوف يفاقم معاناة الطبقة الوسطي والطبقات ذات الدخل الأدنى, مع الأخذ في الاعتبار سريالية الحديث عن طبقة وسطي في بلد تقول حكومته ان اكثر من ثلثي الشعب يعيش تحت خط الفقر وفيه يمكن اعتبار الوزير والطبيب المتخصص واستاذ الجامعة في عداد الفقراء لو نظرنا الِي رواتبهم الحكومية فقط. فحسب دراسات , فان الدعم تتوزع فوائده علي الطبقة الفقيرة التي تستفيد من 20% من قيمته, والطبقة الغنية التي تستفيد من 20% منه والطبقة الوسطي التي تحصل علي 60% من ثماره.

– المبرر الذي تردده الحكومة في لهفها لرفع الدعم هو ان المستفيد هو الطبقة الغنية فقط. وهذا يعني ان الحكومة مستعدة لعقاب 80% من الشعب بجريرة 20% . الخيار الاسلم في ظل مثل هذه الأوضاع هو الإبقاء علي الدعم وفرض ضرائب إضافية علي ال 20% من الأغنياء تساوي قيمة الدعم الذي يتلقونه. ففي حالة دعم المحروقات يمكن تحصيل ضرائب إضافية عند تجديد رخصة السيارة وفرض جمارك علي قطع غيار السيارات. أما في حالة دعم القمح فيمكن إضافة ضرائب علي مبيعات الحلويات والمخبوزات الفاخرة والكافتيريات المخملية. يمكن لإجراءات مثل هذه ان تستعيد مبالغ الدعم الذي تصيبه الطبقة الغنية من وجوده.

– زعم الحكومة بان الدعم يستفيد منه أهل المدن ولا يصل الريف سخف فوق العادي لأنه يعني ببساطة ان هذه الحكومة أما انها تمارس التضليل ولا تقول الحقيقة أو انها تعتقد ان انسان الريف لا يأكل منتجات القمح ولا يستعمل مواصلات اطلاقا ولا يستهلك أي سلعة خاضعة للنقل. وقد أكدت مفوضية الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية قبل أيام ان رفع الدعم سوف تكون له اثار وخيمة علي الطبقات الفقيرة وبالذات في الريف.

– من ناحية النظرية الاقتصادية الدعم في حد ذاته ليس مشكلة. المشكلة هي عجز الميزانية الذي قد يترتب عليه وتمويله بطباعة النقد. الحقيقة العلمية هي ان مصدر الشرور العظيمة ليس الدعم في حد ذاته وانما عجز الميزانية المتفاقم. ولكن كيفية التخلص من هذا العجز قضية سياسية من الدرجة الاولي قبل ان تكون قضية اقتصادية. اقترح الكثير من المراقبين والفاعلين , بما فيهم لجنة قحت الاقتصادية, ان هذا العجز يمكن تجسيره بتفعيل ولاية المالية علي المال العام والثروات الوطنية , وأيضا عن طريق تقليص الصرف الحكومي غير المنتج في المستويين الفيدرالي والولائي.

– تجاهلت الحكومة كل هذه الاقتراحات ولم تقاربها لا من بعيد ولا من بعيد وتوجهت ناحية رفع الدعم مصوبة بذلك الرسالة السياسية الخطأ لشعب التضحيات وهي انها تفضل ان تحمل الطبقات الوسطي والفقيرة تكلفة سد عجز الميزانية وانها تعفي عفوا كاملا يشمل الأجهزة الأمنية والعسكرية وكل الطفيليات الرأسمالية والعسكرية والبيروقراطية. وهذا يعني ان زلة لسان الفريق ياسر العطا لم تكن هفوة حين قال ان قحت [ وحكومتها] قد انحازت للمؤسسة العسكرية.

– النقطة الأكثر أهمية في البعد السياسي لقضية الدعم هي ان رفعه سوف يفاقم من غضب الطبقات الوسطي والفقيرة التي سوف تسحب تأييدها للحكومة الانتقالية وسوف تنازلها في الشوارع كما نازلت نظم البشير ونميري من قبل ولنفس الاسباب. لذلك فان رفع الدعم في الوقت الحالي هو اثمن هدية يمكن ان تقدمها هذه الحكومة الِي قوي الثورة المضادة المتربصة بها وربما مهد هذا التوجه الأخرق وتداعياته الِي زلازل سياسية في المدي القصير وانهيار وطني شامل علي المدي المتوسط. ويشهد علي ذلك الخطر الاحتقان المتفاقم, حتى قبل رفع الدعم, بين السيد وزير المالية من ناحية , ولجنة قحت الاقتصادية ولجان المقاومة الجغرافية والمهنية من ناحية اخري. وهذه فقط مناظر وسيبدأ الفلم مع انفجار شعبي شامل في حالة رفع الدعم.

– يتضح مما ورد أعلاه انه بغض النظر عن المبررات الاقتصادية لرفع الدعم الِا ان المعادلة السياسية تقول ان ثمن هذا الرفع هو سقوط هذه الحكومة تحت لعنات الشعب وإدخال البلد في نفق مظلم يصعب الخروج منه .

– رغم ان الحكومة لا تعي الحساسية السياسة لقضية الدعم الا ان الأسوأ هو انها لا تستوعب حتى جانبه الاقتصادي (النظري/العلمي). كما ذكرنا ان المشكلة من وجهة نظر علم الاقتصاد ليست الدعم في حد ذاته وانما هي عجز الميزانية الناتج وكيفية تمويله. ولكن خطاب الحكومة يتعامل صراحة مع الدعم علي أساس انه هو المشكلة في حد ذاته وعجز الميزانية قضية ثانوية, وهذا موقف كهنوتي بامتياز لا يمكن تفسيره إلا كطقس قرباني لأله النيولبرالية المقدس. والدليل علي خطل خطاب الحكومة انه يصرف وعودا عظيمة رفقة رفع الدعم من المؤكد ان وقعها علي عجز الموازنة اشد وامر من اثر الدعم. وهذه الوعود المعسولة لو نفذت فان معدلات التضخم سوف تكون كوكبية وكذلك يتسارع انهيار الجنيه نحو قاع الموات الوطني. تشمل هذه الوعود الفانتازية صرف دخل شامل مباشر شهريا لكل مواطن و/أو شبكات ضمان اجتماعي تغطي 80% من الشعب وصرف مرتبات للشباب العاطل وتوفير ترحيل مجاني للطلاب وتوفير وجبة مدرسية, ودفع مبالغ للآباء والامهات لتحفيزهم علي ارسال أطفالهم للمدارس الِي إعادة الاف المفصولين الِي وظائف عليا في الخدمة المدنية تليق بأعمارهم فوق الخمسينية.

– قد يقول قائل أننا أمة ضعيفة لا خيار لنا سوي الركوع امام أله النيولبرالية المتقدس, وان بورجوازياتنا ولدت وظلت محاصرة بين مطرقة الشعب وسندان الامبريالية لذلك فان خياراتها الوطنية محدودة وحيز المناورة المتوفر لها ضيق للغاية . ولكن حتى لو قبلنا حجة أنا لا نملك المقدرة علي مناطحة نظام عالمي اخطبوطي فان هذا لا يعني سلامة خيار رفع الدعم لان سقوط الحكومة وانهيار الانتقال الديمقراطي ليس خيارا مناسبا أو واردا أو مقبولا لان قتل المريض للقضاء علي فيروس الدعم حماقة كاملة الدسم.

– ويمكن أيضا للحكومة ان تعد مراكز القوي العالمية المهيمنة علي بلوف المال بانها ستعود الِي زيارة ملف دعم السلع بعد ان تأسس نظام دعم دخل مباشر يذهب فيه الكاش مباشرة للفقراء كبديل لدعم السلع يتمتع بالقبول من هذه القوي ولكن فقط بعد التأكد من كونه نظامًا متينًا ومستداما يدعم الأسر الفقيرة في جميع أنحاء السودان ، بما في ذلك القرى النائية بمبلغ مضمون الوصول مع بداية كل شهر.

– وان كان لا بد من استرضاء مراكز القوي الرأسمالية , فيمكن ان توضح لها الحكومة ان رفع الدعم حاليا هو شروع في الانتحار لا يفيد هذه القوي وهذا الاقناع ليس مستحيلا لو توفر لممثل الحكومة الرصانة والمعرفة اللازمة . كما يمكن تذكير هذه القوي بان كل الدول الكبرى والغنية وحتى المتوسطة تدعم مواطنيها عبر قنوات مفضالة لا تتوفر لنا مثل التعليم المجاني , والعلاج المجاني والضمان الاجتماعي والمعاشات السخية والتأمين ضد العطالة وتعويضات ذوي الإعاقة ودعم الشباب والأطفال والشيوخ. لذلك فان دعم السلع الاستراتيجية ليس بدعة وانما هو قطرة من الدعم الذي تقدمونه للمواطن في بلدانكم. وان هذا الدعم السلعي هو المتاح الوحيد لنا حاليا من الناحية الإدارية والمؤسسية و المالية ونحن لا نملك سواه وسحبه قفزة في ظلام دامس.

– خلاصة القول هي ان رفع الدعم سوف ينقل الطبقات الوسطي والفقيرة الِي خانة اعداء الحكومة الانتقالية وبذلك سوف يخدم قوي الثورة المضادة المتربصة ويفاقم الاحتقان الوطني وينسف وحدة تحالف الثورة ويمهد لسقوط هذه الحكومة تحت لعنات الشعب ومن ثم تدخل البلد في ازمة تهدد وجودها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.