التبرير الديني لفساد الحكام

0 51

كتب: بابكر فيصل 

.

تدَّعي جماعة الإخوان المسلمين أن دعوتها للوصول للحكم تنبني في الأساس على القيم الأخلاقية التي يدعو لها الدين الإسلامي, وقد دأبت الجماعة على الترويج لنموذج الحكم الذي تنشده من منصة ربط قيم السماء بالأرض وبناء الفردوس الدنيوي بسواعد الأطهار من أصحاب الوجوه النورانية والأيادي المتوضئة .

قد أتيحت الفرصة للجماعة لحكم السودان لمدة 30 عاما وهى الفترة التي لم يحظ بها أية نظام حكم وطني منذ أن نال البلد استقلاله من المستعمر البريطاني في عام 1956 ومع ذلك فقد قدمت الجماعة أسوأ تجربة استبدادية في الحكم كانت أبرز عناوينها هى الحروب الأهلية والفساد والعزلة الدولية حتى خرج عليها الشعب وأسقطها في ثورة ديسمبر 2018 .

وبما أن الدين كان هو الأداة التي استخدمتها الجماعة لخدمة مصالحها السياسية في السلطة فقد إستمر استدعاءه لتبرير الممارسات القبيحة لنظام الحكم وفي مقدمتها الفساد المالي والإداري والاخلاقي, ومن أمثلة ذلك الاستدعاء التصريح الذي أدلى به أحد قيادات ذلك النظام حول الفساد الذي استشرى في جسد الدولة حينها.

أعد الأستاذ صالح عمار تقريراً عن قضايا الفساد التي أحدثت جدلاً واسعاً في أوساط الرأي العام أبان حكم جماعة الأخوان, وقام باستطلاع رأي القيادي الإخواني ربيع عبد العاطي حول الموضوع, فقال الأخير : ( المجتمع الإسلامي لا يخلو من السرقة ولو لم تكن هناك سرقات وجرائم لما نزلت الحدود وبينها حد السرقة ).

وعندما استدرك الأستاذ صالح بالسؤال : ولكن من يسرق الآن هم الحكام الذين يدعون الطهارة والإمامة وليس المجتمع وانني لم أسمع أن مواطنا سطا علي بنك أو وزارة واختلس مليارات الجنيهات ؟

جاء رد عبدالعاطي كالتالي : ( إن هناك نماذج كثيرة للسرقات والفساد في المجتمع وإن الحكام خارجون من هذا المجتمع الذي يمارس السرقة وهم من الشعب وأبنائه وكما تكونوا يولى عليكم ), وأضاف ( يولى عليكم من يشبهكم وهو من المجتمع وجاء منكم ).

الإجابة أعلاه تحتاج للتفنيد من أجل إثبات خطلها والتحايل الذي تتضمنه فمن الناحية الدينية فإن حديث ” كما تكونوا يولى عليكم” لم يصح ولم يثبت صدوره عن الرسول, وهو كذلك غير صحيح من الناحية العقلية و من ناحية التجربة التاريخية لأن هناك شعوبا تعاقب عليها حكام فاسدون وآخرون غير فاسدين بينما ظلَّت هى كما هى ولم تتغير.

قد شهد التاريخ الإسلامي نماذج متصلة من جور الحكام وتسلطهم وفسادهم في ظل حكم إمبراطورية “بني أميَّة” فهل هذا يعني أن المجتمع الإسلامي كان جائرا و مستبدا وفاسدا ؟ وعندما تسلم الخليفة عمر بن عبد العزيز السلطة لفترة وجيزة لم تتعد العامين ساد فيهما العدل في أوساط الناس ومع الحاكم فهل هذا يعني أن الأمة تغيرت في سنتين فقط لتنجب هذا الخليفة العادل ؟

ومن الناحية العقلية فإن الفساد يسري من الحاكم إلى المحكوم, لأن الأول يملك قوة القرار, و تلعب الفئة الحاكمة دورا حاسما في إصلاح أو إفساد أي مجتمع لأن الناس بطبعهم يقلدون الحاكم, ومن هنا جاءت المقولة (الناس على دين ملكوهم), والقرآن نفسه يُعلمنا أن فساد الأمم يأتي من أعلاها الي أسفلها وليس العكس : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).

إن حديث عبد العاطي يتم توظيفه في إطار نوع من الخطاب الديني يهدف لتكريس و إستمرار فساد السلطة وإلقاء اللوم على الضحية, وهو في هذه الحالة الشعب, فالغرض منه أن يُثبِّت في نفوس الناس وعقولهم أن أحوال الحكم لن تنصلح أبدا لأن العيب ليس في الحكام وإنما فيهم هم, فهؤلاء الحكام ليسوا سوى أداة لتنفيذ العقاب الإلهي على الشعب وليس هناك من سبيل سوى القبول و التسليم بها لأنها تعكس إرادة السماء.

كذلك يهدف هذا الخطاب لإيصال رسالة للناس تقول : لا فائدة من محاربة الفساد, عليكم أن تقتنعوا بالموجود وتستسلموا له لأنه لو ذهب هؤلاء الفاسدون فسيحل محلهم مفسدون آخرون لأن العلة الأساسية موجودة في المجتمع وليست فيهم هم.

خطل هذا الخطاب يتبدى جليا عندما ننظر في حقائق الواقع التي تقول أن الشعب (المجتمع) السوداني المتهم من قبل القيادي الإخواني بالتسبب في الفساد قد تعاقبت على حكمه العديد من الأنظمة الوطنية, ومع ذلك لم يبلغ مستوى الفساد الدرجة التي وصل إليها ابان حكم الإخوان.

ومن ناحية أخرى , فإن الجماعة عندما استولت على السلطة عبر الانقلاب العسكري بذلت الوعود و الأماني العذبة للشعب بنقله من مجتمع البشر الأشرار لدولة الملائكة الأخيار أصحاب الوجوه النورانية و الأيادي المتوضئة, فما الذي حدث ؟

العلة الأساسية تكمن في طبيعة النظام الاستبدادي وليس المجتمع كما يدعي القيادي الإخواني, ذلك لأن السلطة في أصلها مفسدة, والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة, وقد تعلمت الإنسانية في مسيرتها الطويلة أنه لا بد من تقييد هذه السلطة وممارسة الرقابة المستمرة عليها والسماح بتداولها بطريقة سلمية, وقد ثبت أن النظام الديمقراطي هو أكثر أنظمة الحكم فاعلية في القيام بهذه المهام.

وعلى مستوى الأفراد الحاكمين أثبتت التجربة الإنسانية أن الإعتماد على الكوابح الداخلية مثل الإيمان و التقوى و الضمير وغيرها لا يكفي وحده لحماية هؤلاء الأفراد من فساد السلطة, وبالتالي تم إخضاعهم لقيود خارجية متمثلة في اللوائح و النظم و القوانين, فماذا فعل نظام حكم الأخوان في هذا المجال ؟

لقد تعامل مع خلاصة التجارب الإنسانية باستخفاف كبير وعنجهية شديدة إذ قام بتحطيم القوانين, وأحكم سيطرته على السلطة بالكامل, وأزاح جميع الكوابح الخارجية, ليكتشف بعد فوات الأوان أن أتباعه بشر وليسوا ملائكة !

إن خير من عبَّر عن هذه المفارقة هو القيادي الآخر في جماعة الأخوان عبد الله حسن أحمد , عندما سئل عن الفساد وسط منسوبي جماعة الأخوان المسلمين في السودان, فقال :

(عندما كنا في الماضي معارضين, كنا متجردين ولم نقترب من الفساد, وكنا بعيدين عن المال العام, ولكن عندما اقتربنا من المال العام بدأ يدخل علينا, ونقول هذا مال عام, وهذه طبيعة البشر يمكن أن يأكلوا المال العام ويأكلوا الواطة “الأرض في العامية السودانية” ).

إن عبارة “وهذه طبيعة البشر” التي وردت في الإجابة أعلاه هى العبارة المفتاحية التي تفسر كل شىء, ذلك أن طبيعة البشر لا يمكن صدها أمام إغراءات السلطة إلا عبر الكوابح الخارجية التي تحدثنا عنها, ولن يكفي في ذلك زبيبة الصلاة مهما كبر حجمها, أو اللحية مهما بلغ طولها, أو الإكثار من رفع الإصبع السبابة مصحوباً بالتكبير !

عندما حكم البريطانيون السودان تميّز حكمهم بالنزاهة والانضباط والشفافية والمساءلة والمحاسبة لأنهم إستوعبوا فكرة الكوابح الخارجية وأصبحت هى الوسيلة المقدسة لديهم لتأمين دولاب الحكم وبيروقراطية الدولة, وقد فشل الأخوان واستشرى الفساد في جسد دولتهم رغم شعاراتهم الدينية البراقة !

إن جوهر الحكم السليم و أساس التعاقد بين الحاكم والمحكوم ينبغي أن يقوم على الاختيار الحر, ودون ذلك فإن أهداف السلطة ستتحدد وفقا لتقدير مصالح الأطراف المحتكرة و النافذة في الحكم والمستفيدة منه وبما يضمن استمراره , هذا الاحتكار للسلطة يخلق البيئة المواتية للفساد والإفساد و لا سبيل للفكاك منه سوى كسره وفتح الباب أمام الإختيار الطوعي.

ختاماً, ندعو أصحاب الخطاب الديني الذي يعزي أسباب الفساد للمجتمع بدلا عن الحكام لتأمل كلمات قاهر الاستبداد، عبد الرحمن الكواكبي، التالية :

(حرص التموُّل “كسب المال” القبيح يشتد في رؤوس الناس في عهد الحكومات المستبدة, حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال, و بالتعدي على الحقوق العامة, و بغصب ما في أيدي الضعفاء، و رأس مال ذلك هو أن يترك الانسان الدين و الوجدان و الحياء جانباً و ينحط في أخلاقه إلى ملائمة المستبد الأعظم، أو أحد أعوانه و عماله, و يكفيه وسيلة أن يتصل بباب أحدهم و يتقرب من أعتابه, و يظهر له أنه في الأخلاق من أمثاله وعلى شاكلته, و يبرهن له ذلك بأشياء من التملق و شهادة الزور، و خدمة الشهوات، و التجسس و الدلالة على السلب ونحو ذلك).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.