التخبط الجيواستراتيجي

0 66
كتب: د. النور حمد
.
التخبط الجيواستراتيجي في سياسية السودان الخارجية شأن قديم يعود إلى مرحلة العمل الوطني المنادي بالاستقلال، منذ الربع الثاني من القرن العشرين. وقد كان لحالة الشد والجذب التي نتجت عن الصراع بين تيار الاستقلاليين والاتحاديين تأثيرها السالب على توجه السودان الجيواستراتيجي. ورغم أن الاتحاديين، دعاة الوحدة مع مصر، انحازوا في اللحظات الأخيرة التي سبقت الاستقلال إلى الخط الاستقلالي، إلا أن الانجرار وراء مصر ودعوة القومية العربية استمر حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. حين وصل العقيد جعفر نميري إلى السلطة بالانقلاب العسكري عام 1969، بدأ حكمه يساريا متماهيا مع الخط القومي العربي، ودار السودان تبعا لذلك في فلك الناصرية والاتحاد السوفيتي. لكن تغير الوضع عقب محاولة الانقلاب التي قام بها الشيوعيون، وإبعاد السادات الخبراء الروس والتوجه نحو الغرب.
في بداية تسعينات القرن الماضي، أخذ التوجه الجيواستراتيجي خطا راديكاليا، بسبب وصول الإسلاميين إلى السلطة، خاصة في العشرية الأولى التي سيطرت فيها رؤى الدكتور حسن الترابي العامدة إلى تصدير الثورة إلى ما وراء الحدود. فنشأت التوترات مع دول القرن الإفريقي وبلغت حد قطع العلاقات. وازدادت التوترات مع دول الخليج نتيجة لموقف الإسلاميين في السودان من غزو صدام حسين للكويت. كما أنجر السودان إلى المحور الإيراني نتيجة لإعجاب إسلاميي السودان بالثورة الإيرانية، وتصورهم لإمكانية نشوء حلف بين الإسلام السياسي وإيران، يعيد رسم خريطة المشرق العربي على نحو جديد. الشاهد، أن السودان بقي بلا بوصلة جيواستراتيجية منذ استقلاله وإلى يومنا هذا.
بلغ التخبط الجيواستراتيجي في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس المخلوع عمر البشير، مبلغا لا يصدق. فبعد أن تغلغل الإيرانيون في السودان سياسيا وعسكري وعقديا في السودان، قلب لهم الرئيس البشير ظهر المجن وقطع علاقاته معهم. بل، وأرسل الجنود السودانيين إلى اليمن ليحاربوا ضد الحوثيين حلفاء إيران. حدث هذا بعد أن كانت إيران تهرب السلاح إلى حماس عبر الأراضي السودانية بتنسيق كامل مع حكومة الرئيس البشير، وبعد أن أصبحت البحرية الإيرانية ضيفا معتادا على ميناء بورتسودان، الأمر الذي أقلق السعودية ومصر ودول الخليج. وبلغ البشير في التخبط الجيواستراتيجي درجة العبط، حين طلب من بوتين بحضور أجهزة الإعلام حماية نظامه من خطر الأمريكيين، وعرض على روسيا إنشاء قاعدة عسكرية في السودان.
في عام 2017 قال المدير الأسبق لإدارة الإعلام بوزارة الدفاع السودانية، اللواء متقاعد محمد عجيب، في مقابلة مع وكالة “سبوتينك”: “أعتقد أن بلادنا بحاجة لتعاون عسكري مع روسيا إلى جانب التعاون السياسي والاقتصادي المستمر، مشيرا إلى أن بناء قواعد عسكرية روسية في البحر الأحمر سيؤدي إلى خلق توازن في المنطقة ويعيد للسودان الكثير من الأدوار التي كان يلعبها في محيطه العربي”. ويبدو أن ما تحدث عنه اللواء المتقاعد محمد عجيب في عام 2017 حول ما يراه ضرورة لوجود قاعدة روسية في السودان، أصبح في طريقه إلى التحقق حاليا. فقد أوردت سكاي نيوز عربية، قبل بضعة أيام، أن روسيا ستنشئ قاعدة بحرية شمال بورتسودان. وأن مسودة الاتفاق تنص على أنه يحق لروسيا أن تنقل عبر مطارات ومرافئ السودان أسلحة وذخائر ومعدات تعد ضرورية لتشغيل القاعدة البحرية.
من جانب آخر بدأت في الأيام القليلة الماضية مناورات مشتركة بين السودان ومصر يشترك فيها سلاح الجو المصري، منطلقة من مطار مروي. يجري هذا في ظل تلويح مصر المستمر بضرب سد النهضة، ما يجعل إثيوبيا تنظر إليها، وبالضرورة، بادرة عداء سودانية. خاصة بعد أن انخرطت الحكومة الأثيوبية في حرب مع إقليم التقراي الذي أخذ يخرج عن طوعها. وأيضا، في وقت لا تزال فيه قضية سد النهضة عالقة، ولا تزال فيه حلايب السودانية محتلة من جانب مصر. يجري كل ذلك في وقت تعود فيه العلاقات السودانية الأمريكية إلى طبيعتها السابقة لفترة فرض العقوبات، وأيضا، في وقت تجري فيه خطوات التطبيع مع إسرائيل. يشير كل ما تقدم إلى أن السياسة الخارجية السودانية لا تزال تعيش في ظل تخبط وتقلبات فترة حكم البشير. كما أنها، فيما يبدو، لا تنطلق من مركز حكم واحد، وإنما من مركزين، وربما أكثر. ولهذا التخبط ثمنه الذي ستدفعه البلاد عاجلا أو آجلا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.