الثورة وتشكيلة الحكم الراهنة

0 107
كتب: د. النور حمد
.
لا يمكن تجاوز قصور الواقع بقفزة عبر الهواء. فالواقع يفرز ما هو ممكن في السياق الظرفي للحالة الكلية القائمة. ولذلك لابد أن نميز تمييزًا دقيقًا بين الثورة كتصورات وتطلعات ظلت تعتمل في أذهان الثوار، وبين تجلياتها وهي تغالب إكراهات الواقع القائم. لهذا السبب كنت أشعر شعورًا قويًا أن ثورة ديسمبر 2018 ستمر بنفس المضائق التي مرت بها سابقتاها في أكتوبر 1964 وأبريل 1985. بل إن مضائق وتحديات ثورة ديسمبر ستكون أفدح وأكثر حرجًا لأن البلاد قد دخلت حالة إنهاكٍ غير مسبوقة. تؤكد ذلك المعرفة العامة بالعلوم السياسية وبالعلل البنيوية التي اتسم بها العمل السياسي في السودان، عبر مرحلة ما بعد الاستقلال. والآن، لو أننا قمنا بجرد لحصاد العام الذي انصرم، منذ توقيع الوثيقة الدستورية، لاتضح لنا أن الثورة، بوصفها تصورات وتطلعات لواقع جديد شيءٌ، وما تقوم به الشراكة العسكرية المدنية من عملٍ مرتبكٍ، شيءٌ آخر. بل إن أي حوار بين الثورة كما هي في أذهان الثوار وبين الشراكة العسكرية المدنية التي تمسك الآن بعجلة القيادة، لن يكون سوى حوار طرشان.
كل واقع سبق أي ثورة يصبح، بالضرورة، جزءًا لا يتجزأ من دينامياتها، أرادت الثورة ذلك، أم لم ترد. ولذلك فإن أي توقع لاتساق الأفعال وازدهار الأحوال العامة وانطلاق الفعل الثوري في الواقع بسلاسة عقب انتصار الثورة مباشرة، لا يكون سوى أحلام بلا سيقان تقف عليها. يصبح هذا أكثر تجسيدا حين يكون الواقع السابق للثورة واقع شكله نظام حكم استبدادي كليبتوقراطي استحواذي كنظام الإنقاذ. فالشراكة بين قيادات الجيش، وهم جزء لا يتجزأ من بنية النظام المقتلع، إضافة إلى أن لهم اليد العليا في تلك الشراكة، لا تسمح بتحولٍ حقيقي. ولا يقف الخلل في بينة الحكم القائمة في الشق الذي يمثله المكون العسكري وحده. وإنما في المكون المدني أيضا. فهو الآخر مؤوف بحمول ثقيلة جرها معه من ماضي السياسة السودانية المعتل. لذلك لا غرابة أن أخذت خطوط الثوار تتباعد عن خطوط ما سميت الحاضنة السياسية الممثلة في قوى الحرية والتغيير، وخطوط قوى الحرية والتغيير فيما بينها، أيضا. سبب كل ذلك يعود إلى التربية السيئة للنخب السياسية بمختلف انتماءاتها. فهي تربية معتلة يحكمها التنافس والكيد والتخندق الجهوي وعبادة صنم المنصب. وقد أخذ كل ذلك يتجلى الآن أمام الأعين حتى بدأت تنشأ منه حالة شبه عامة من الاحباط والقنوط وسط مختلف قطاعات الشعب.
عبر العام المنصرم أخذت سوءات الممارسة السياسية المعتلة في السودان تتجلى وسط المكون المدني بكل طيفه الواسع المكون من الأحزاب والقوى المهنية والنقابية والحركات المسلحة والطاقم الحاكم في المجلس السيادي ومجلس الوزراء. كل هذا الجسم السياسي المدني العريض كان أقل بكثير من قامة الثورة. وأكبر الشواهد على انغراس أقدامه في أوحال الماضي طابعه الشللي ونزوعه إلى للمحاصصات وعدم قدرة متنفذيه على التخلي عن المنصب. عدم قدرة السياسي عن التخلي عن المنصب هي ما تجعله ينثني وينحني للضغوط، ويبيع من أتوا به ليبقي على كرسيه. فعدم الشفافية وإخفاء الحقائق عن الثوار أو عرضها بصورة جزئية مما نشاهده الآن، إنما يعود إلى هذه العلل. ولو أنهم ركنوا إلى الشعب وأسندوا ظهورهم إليه، لبقوا في المناصب بأكثر مما يتوقعون. خلاصة القول إن هذه الثورة منتصرة، ولكن عبر موجات متلاحقات سيعمل فيها غربالها في لفظ الشوائب، وما أكثرها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.