الخمور بين القانون والأخلاق (10)

0 131
كتب: د. النور حمد
لا يصح في عصرنا الراهن أن تُصدر دولة ما تشريعين مختلفين لمواطنيها مبنيين على أساس الدين. هذا منزلقٌ أدخلتنا فيه قوانين سبتمبر الشوهاء، التي جبُن مشرعونا عن إلغائها خوفًا من بعض المتشددين الجهلاء، الذين يهتمون بالمظهر الخارجي الكاذب ويتعامون عن حقائق الواقع وجوهر مقاصد الدين. لقد سبق أن ذكرنا، أن المنع الذي جرى في سبتمبر 1983 لم يغير شيئا. فالخمور البلدية ازدهرت صناعتها، وأصبحت منتشرة في مكان. وأصبحت لها شبكات اتجار سرية، بالغة الضخامة. وهي بالإضافة إلى أن تصنيعها لا تحكمه معايير علمية تحدد نسبة الكحول، فقد دخلت في صناعتها المواد الكيميائية الضارة. من يهللون للمنع يتجاهلون المضار الصحية للخمور البلدية، ويتعامون عن عالمها السري، بالغ الضخامة. بعضنا يرضون بغش أنفسهم أن الخمر ممنوعة. يهتمون بمنعها مظهريًا، ويتجاهلون حقيقة أن تعاطيها قائمٌ بل ومتفاقم، وأن أضرارها أصبحت أفدح من أي وقت مضى.
لقد حرم الإسلام السكر وأوقع عليه العقوبة، كما جاء فيما أوردناه عن الخليفة عمر، رضي الله عنه، وعن ذلك الشخص الذي سكر واحتج بأنه شرب من نفس القِرْبة التي يشرب منها عمر. فرد عليه عمر: “إنما أضربك على السكر”. تجريم السكر وإنفاذ العقوبة عليه، هو الذي يجعل المسلم وغير المسلم سواء أمام القانون. يضاف إلى ذلك أن السماح لغير المسلمين باستيراد الكحول وصناعتها يخلق إشكالات عملية كثيرة. فلنفرض، مثلاً، أن شخصًا غير مسلم يصنع الكحول في منزله، أو أنه يستوردها، لكنه تعدى حدود السماح له، وشرع في بيعها لغير المسلمين، فهل يملك القانون طريقةً عمليةً فعالةً للسيطرة على ذلك؟ وإذا جرى القبض على مسلمٍ يتناول الكحول، لكنه لكي يتجنب العقوبة ادعى أنه غير مسلم، فماذا سيصنع القانون معه؟ خاصةً أن قانون الردة قد أُلغي. وأنا هنا لا أتباكى على إلغاء قانون الردة، فإلغاؤه إجراءٌ صحيح؛ دينًا وعقلاً، مأ أريد أن أقوله هو أن القضاء سيجد نفسه عاجزًا عن فعل أي شيء لشخصٍ كهذا. ولا ينبغي أن نستبعد ظهور أشخاص من هذا النوع، فهم موجودون الآن، ويتزايدون. وجود قانونين للمواطنين يحوِّل التقاضي إلى مهزلة ويجعل من القانون أضحوكة.
الدولة الراشدة هي التي تطلب من جميع مواطنيها، بغض النظر عن دينهم، أو ثقافتهم مستوى محددًا من السلوك المنضبط في المجال العام. بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون السكر جريمةً بالنسبة للمسيحي والوثني واللاديني والمسلم، سواءً بسواء. فتطبيق القانون وتثبيت فعاليته هي جزء من القانون، وهو ما يسمى law enforcement. فالقانون الذي يتعذر تطبيقه عمليًا ليس سوى حبر على ورق. وما دامت سلطات القانون لا تستطيع شرعًا دخول بيوت الناس، فإن منع الشرب يصبح بلا معنى. حين يكون القانون موحدًا تستطيع الدولة أن تبني منظومة قيم موحدة، تشمل جميع مواطنيها بلا استثناء. فالدولة لا دخل لها فيما بين الفرد وربه، ولا ينبغي، إطلاقًا أن نخلط ما بين الفرد وربه وما بين الفرد والمجتمع. أعتقد أننا بسبب حرصنا على التدين المظهري الكاذب، ندخل أنفسنا وديننا في جحرٍ ضيق. نحن بحاجة إلى أن نفهم الإسلام على نحو أفضل، وأن نشرِّع لعصرنا بعقلانية، وأن نوائم بين مقاصد الدين وواقع حياتنا، وأن نسترشد بالمفيد من تجارب الشعوب.
(غدًا المقال الأخير من هذه السلسلة)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.