الخمور بين القانون والأخلاق (6)

0 106
كتب: د. النور حمد
قلت في المقالة السابقة، إن الأصل في الأشياء هو الحل. والحرمة ليست سوى حكم شرعي سببه العجز عن القيام بواجب المسؤولية، الذي هو شرط التمتع بالحرية. جاء في تحديد المحرمات قول الله تعالى: ” قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”. على عموم الأمر، كل ما يمر عبر فم الإنسان، من مطعمٍ أو مشربٍ حلال، باستثناء هذه الأعيان الأربعة. وحتى هذه الأربعة سُمح للمضطر، المستوفي لشروط الاضطرار، أن يطعمها. وجاء أيضًا: “لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”. وهذه من أكثر الآيات وضوحًا في أن التقوى والإحسان تضعان الإنسان في براح الحرية المسؤولة.
لا يعني ما تقدم، أن معاقرة الخمر تليق بالمتقين المحسنين، فهؤلاء لا حاجة بهم إلى الخمر، أصلا. والقول بأن الحل هو الأصل، ليس دعوةً لمعاقرة الخمر، وإنما لتثبيت مبدأ المسؤولية الفردية. ففي عهد الوصاية، وهو العهد الماضي، جرى سد للذريعة، فكان التضييق. أما في عهد الحرية والمسؤولية والاسماح، فإن التحريم والعقوبة ينبغي أن تنصبَّا على السكر، وليس على مجرد الشرب. وقد قال بذلك، فيما يخص الأنبذة، فقهاء أقدمون، مثال: إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وأبو حنيفة، من فقهاء الكوفة، وكذلك أكثرية من علماء البصرة؛ أي، أن المحرم هو السكر نفسه، وليس عين ما يُشرب. (بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص 912). فالأصل هو الإباحة، وجاء المنع بسبب سوء التصرف، وقد كان الوقت وقت وصاية. أما التشريع اليوم، فينبغي أن يضع الناس في موضع المسؤولية، وذلك بحصر المساءلة والعقاب في حالة السكر، في المجال العام، وليس لمجرد الشرب. فالقانون أصلاً لا يملك عينًا تراقب له ما يقع خارج المجال العام. خاصةً وأن تتبع الناس داخل بيوتهم ممنوعٌ شرعًا.
واجبنا هو تبيين ضرر الخمر على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع، عبر منابر المساجد، ومناهج المدارس، والرسائل الإعلامية، والصحية. وأن نبتعد من جعل المنع المطلق والعقوبة بديلين للضمير وللأخلاق وللمسؤولية الفردية. نهج العقوبة المتَّبع منذ سبتمبر 1983، وإلى اليوم لم يغيِّر شيئًا. بل تسبب في اتساع دائرة تعاطي أنواع الكحول بالغة الضرر. هذا النهج لن يغير شيئًا، لأنه شبيه بتصور النعامة حين تدفن رأسها في الرمال، وتظن أن ذلك يخفي جثتها الضخمة، عن عين عدوها. لقد أصبح الإقرار بأن الحرية الفردية هي الأصلٌ في الإسلام أوضح من أي وقتٍ مضى. قال زعيم حركة النهضة في تونس، راشد الغنوشي، في مقابلة في قناة الجزيرة: “ليس من مهمة الدولة أن تفرض الإسلام. ليس من مهمة الدولة أن تفرض أي نمطٍ معيِّنٍ على المجتمع. مهمة الدولة أن تحفظ الأمن العام، تحفظ العدل، تقدم الخدمات للناس. أما الناس: تصلِّي ما تصلِّيش، تتحجب ما تتحجبْشْ، تسكر ما تسكرْشْ، هذا متروكٌ للناس”. لقد أبقى تعديل وزير العدل الأخير، فيما يتعلق بالخمور قوانين سبتمبر الشوهاء في مكانها. والاستثناء الذي مُنح لغير المسلمين، إجراءٌ غير موفق.
(يتواصل)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.