الديمقراطية التونسية في مواجهةالشعبوية

0 64

كتب: د. عزمي بشارة

.

1. في أوج خيبة الذين “هرموا” منذ عام 2013 لأن آخر شمعة في حلكة “الاستثناء العربي” قد تنطفئ، توالت الأخبار عن مواقف النخبة التونسية السياسية والمدنية التي تراوحت بين رفض الانقلاب على الدستور والتحفظ عليه (حذرا وليس تساهلا). لقد عبّرت جميع الأحزاب السياسية، اليسارية والليبرالية (المحافظة وغير المحافظة) والإسلامية (ما خلا حزبين) موقفا رافضا من خطوات الرئيس. وتحفّظت المؤسسات المدنية الكبرى عليها، أو أبدت تحفظاتها. كما رفضت غالبية القانونيين التوانسة تفسيرات الرئيس القانونية للدستور.
2. في كتابي الأخير عن الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، وفي سياق تحليل نجاح الانتقال في تونس وفشله في مصر أكدت اختلافي مع دراسات التحديث بشأن اعتبار معايير التحديث هي الفارق الرئيس بين النجاح والفشل, مشيرا إلى الفارق المهم في ثقافة النخب السياسية بين البلدين. في تونس أبدت النخب السياسية الرئيسية استعدادا للحوار في ظل الالتزام بالعملية الديمقراطية، في حين أنه في مصر فضل بعضها التحالف مع عناصر من النظام القديم أو حتى مع الانقلاب العسكري ضد خصومها. ومنذ الأمس يؤكد رفض النخب التونسية الوازنه الانقلاب على الديمقراطية هذا الانطباع.
3. شكلت الشعبوية بوصفها خطابا ومزاجا سياسيا تحديا رئيسا للديمقراطية في تونس. ولم تتمكن الديمقراطية التونسية من التغلب عليه، بل أججته، بما في ذلك في خطاب الإعلام المتنافس على الإثارة واجتذاب المستمعين والمشاهدين (ولا سيما غير المسؤول وغير المهني منه) وفي التراشق بين الأحزاب في البرلمان (هكذ أدرّجهما من حيث المسؤولية أيضا).
4. وكانت الطامة الكبرى بانتخاب رئيس من دون سجل مهني بارز أو نضالي أو سياسي، بل بسبب خطابه الشعبوي المقعر لا غير. (من المفارقات أن من يؤجج الخطاب الشعبوي ضد النخب السياسية والحزبية والثقافية في أوساط الجمهور هم عادة عناصر وأفراد من النخبة ذاتها، وذلك لأسباب أيديولوجية أو مصلحية أو وصولية، والملفت أنه غالبا ما يكون هؤلاء من الفاشلين في مجالهم المهني الحاقدين على زملائهم، ويحولون الحقد إلى غضب وخطاب سياسي انتقامي من النخبة عموما).
4. يعاني الشعب التونسي من مشاكل اقتصادية عديدة زاد من حدتها وجود توقعات كبرى من النظام الجديد، وأدت الخيبات في بعض الحالات إلى التوق إلى النظام القديم. ولم تتمكن الديمقراطية التونسية من تلبية التوقعات وحل المشاكل بخطط وخطوات تنموية، ولا شك أن عجز الائتلافات الحاكمة، وأيضا المماحكات الحزبية ورغبة المعارضة في إفشال أي ائتلاف أسهمت في ذلك. ولم تتخذ خطوات لرفع العتبة الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان لتقليل عدد الكتل الصغيرة وتسهيل تشكيل الائتلافات وعمل الحكومات.
5. ظهرت الخيبة من البرلمان في تراجع نسب التصويت، وكذلك في التصويت في انتخابات الرئاسة لمرشح شعبوي تحول ضعفه (قله خبرته السياسية) إلى قوة لأنه بدا وكأنه ليس سياسيا. لم يكتف هذا المرشح الذي أصبح رئيسا بالمجاهرة بعدم خبرته، بل أكد أنه لم يصوت في اي انتخابات في تونس الديمقراطية. وهذا تعبير ليس فقط عن استخفاف بالديمقراطية، بل بقلة اهتمام بالمجال العام من طرف شخص رشح نفسه للرئاسة، وشعور نفسي دفين أن لا أحد يستحق ان يمنحه صوته. وهذا بنية نفسية معادية للديمقراطية.
6. إن قيام سياسيين بالتحريض على السياسة هو من أهم علامات الشعبوية المعادية للديمقراطية. فلا ديمقراطية من دون سياسة وسياسيين. الديكتاتور هو أسوأ انواع السياسيين لأنه الأكثر استخداما للتآمر والأحابيل والعنف، ولكنه يدعي الترفع عن السياسة.
7. مهمة الساعة هي تعاون النخب السياسية والمدنية الوطنية التونسية على الرغم من الخلافات في مواجهة الأخطار المحدقة بالديمقراطية. وهذا يشمل مواجهة الشعبوية بفضح أهدافها الحقيقية وبمخاطبة الشعب والإجابة على مخاوفه.
8. جميع الأنظمة السلطوية تواجه مشاكل اقتصادية واجتماعية، وجميعها واجهت جائحة كورونا وغيرها. وتواجه الديمقراطيات (التي تبقى أكثر جاذبية فلم نسمع عن توانسة أو غيرهم يهاجرون للعيش في روسيا والصين وهنغاريا وبولندا فضلا عن كوريا الشمالية) مصاعب اقتصادية واجتماعية، وبعضها استعان بالجيش في مواجهة الوباء، ولكن الجيش لم ينس، خلال تأدية المهام الاستثنائية، أن عليه الالتزام بالدستور. الديمقراطيات تواجه المشاكل في إطار النظام الديمقراطي.
9. الديمقراطية بحد ذاتها هي حل لآفة الطغيان والاستبداد وضمان لحقوق المواطن، وليست حلا للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. فهذه وظيفة القوى السياسية والاجتماعية وسياسات القوى الحاكمة ومؤسسات الحكم، وذلك في إطار النظام الديمقراطي الذي يجب الحفاظ عليه لأن البديل هو الاستبداد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.