الزول دا عديم خريف ساكت 

0 51

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

 جاء في ٢٠٠٦ أن مجهولاً رشق قبر المرحوم نميري، الرئيس السابق، ببوهية حمراء للتشويه والاحتجاج. وهذا الفعل الأخرق هو النهاية المنتظرة للمعارضة الضريرة لنميري وللنظم الرئاسية غير الدستورية الأخرى. فهذا الكيد للقبر مقطوع من قماشة إزالة اسم نميري بعد سقوط نظامه في ١٩٨٥ من لوحة افتتاح قاعة الصداقة. فمعارضة هذه النظم “تشخصن” ظلمها في رمز النظام، الرئيس، وتهمل التراكيب السياسية والثقافية والاجتماعية التي ظلت تنتج هذه الرموز ونظمها بل وتعيد انتاجها خلال ٥٠ عاماً منذ الاستقلال. فالمعارضة تحقن الناس بالبغضاء ضد رمز النظام بأكثر مما تأخذ بيدهم ليقفوا بوعي على شرور التراكيب التي تفرخ هذه النظم غير الدستورية.

أضرب مثالاً لهذه التراكيب. واختار تركيباً ثقافياً لأنه أخفى من غيره من تراكيب الاقتصاد والاجتماع. فكثيراً ما يشتكي سودانيو الأطراف من هيمنة “اولاد البحر (النيل)” على دولاب الحكم. وفي هذا حق كثير بالطبع. ولكن ليس أخطر ما في هذه الهيمنة هو الوجود الفيزيائي للشايقي أو المحسي أو الجعلي إلخ في دست الحكم. الأخطر هو الخيال الجغرافي السياسي الذي بثوه في وصف السودان والخطط لتنميته. فهم صحراويون يقتصر العمار عندهم على الشريط النيلي وأرض السواقي والمتر وما عدا ذلك شيل وأرمي البحر. ومن فرط هذه الصحراوية فالسودان عندهم حفرة من جهنم لا أمان لساكنه بغير أن نسقفه من حلفا إلى نمولي. ولهذا لم تجد صفوة البحر ما يستفز في الزعم بأن نميري قد دفن نفايات ذرية في صحارى السودان. فهذا عندهم استخدام مناسب للسودان البلقع.

وأضرب مثلاً محدداً لما أعنيه بجغرافيا صفوة البحر السياسية التي دمغت السودان ب “صحراوية” من واقع بيئتها المخصوصة. فليس في تقويم هذه الصفوة فصلل اسمه “الخريف”. بينما الخريف (بما يحتشد من إمكانيات) هو واقع أكثر السودانيين. قال الحبيب الطيب محمد الطيب في كتابه (الإنداية) إن سنة أهل النيل الشمالي إما صيف أو شتاء. أما الخريف فلا. وتتعبأ القرى ضد المطر (الغيث) متى لاحت بوارقه العشوائية. وكانت واحدة من القصص القصيرة البارزة في الخمسينات هي “الرجال” لأحمد الأمين البشير عن كيف قاوم رجال أحد الأحياء في عطبرة متضامنين شراسة المطر. ولما غاب عن خيال هذه الصفوة الخريف خلت خططنا التنموية من النظر المعمق في ” حصاد المياه” من الخريف. فالغالب عندنا، حين نتناول موارد المياه في السودان، هو نصيبنا من مياه النيل المتبوع بالتخزين بالسدود. وأصبح هذا الخيال القاصر هو خيال الدولة تَشَربه حتى أولاد الهامش وبناته متى تمكنوا من وظيفة الدولة. فلما حكموا اسقطوا “خريف الرتوع” الذي فُطِروا عليه. وهذا مثل في خطر التركيب ونفاذه.

الخريف حقيقة سودانية لا تطرأ لأمثالي من عديمي الخريف. وروى لي المرحوم مصطفى أحمد الشيخ حكاية غاية الدلالة في حقيقة هذا الموسم الأغر وبشاراته في السودان بينما حكامه من أولاد البحر خلو منه. قال إنه عقدت الجبهة المعادية للاستعمار (تحالف للشيوعيين والديمقراطيين) ندوة بالفاشر لمناقشة ميزانية عام 1957. وسلخ الرفيق المحاضر الميزانية سلخ الناموسة. فلم يترك شاردة ضرائب مباشرة ولا واردة ضرائب غير مباشرة لم يذكرها. ولاحق ما خصصته الحكومة لفروع الميزانية الثلاثة فأطنب. وقارن بين موارد الخدمات والدفاع فما ترك “فرضاً ناقص”. ولكنه في البادي أثقل على الحاضرين. ولما فرغ وانفتح باب النقاش رفع فاشراوي بسيط أصبعه فوقف وقال:

-إن شاء الله يا ربي يا سيدي المطرة دي تجي وتصب شوا كي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.