عرفان صديق
أغادر السودان هذا الأسبوع بعد انتهاء فترة عملي. عندما وصلت إلى السودان في أبريل 2018 لم اكن اتخيل أني سأشهد هذا التغيير التاريخي الذي حدث. استطاع النظام الدكتاتوري السابق تجاوز الربيع العربي وكان يقترب من عامه الثلاثين في السلطة لذلك بدت احتمالات التغيير ضئيلة. كم كان ذلك خطأ. احتجاجات ديسمبر 2018 التي أدت إلى الإطاحة بنظام البشير في أبريل 2019 كانت اندلاع للغضب الشعبي على سنوات الظلم التي مضت. بدعم من النساء والشباب، تبين أن التظاهر السلمي الحازم والشجاع يمكن أن يؤدي إلى تغيير بدا بعيد المنال لسنوات عديدة. كانت هذه حركة ملهمة للغاية.
تتمثل المهمة الأساسية للدبلوماسي في تعزيز مصالح بلده. في أغلب الأحيان، في الدول التي تعمل بشكل جيد، يعني هذا بناء علاقات جيدة مع البلد المضيف كأساس للتعاون. في الدول التي تعاني من خلل أو استبدادية أو إشكالية لأسباب أخرى، نادرًا ما تكون العلاقات الجيدة كافية في حد ذاتها لتحقيق الأهداف المرجوة. كان نظام البشير إشكاليًا على عدة مستويات. وكدبلوماسيين حاولنا أن ندفع بالحجج من أجل التغيير الإيجابي ولكن كان تأثير ذلك ضئيل على حكومة باتت معزولة ومُعاقبة على مدى عقود.
لقد غيرت الاحتجاجات التي أدت إلى الثورة هذا السيناريو. فقد غيرت الإطار الكامل لتعاملنا مع السودان. استغرق البعض وقتًا لإدراك ذلك. بحكم عملي سابقًا في عدد من الدول الاستبدادية والتي خضع بعضها لتحولات، أدركت أن هذه فرصة نادرة للتغيير وإذا ضاعت هذه الفرصة، من يعلم متى ستظهر فرصة أخرى؟ لهذا شعرت بقوة أنه يتعين علينا بذل كل ما في وسعنا لاغتنام لحظة التغيير هذه، وكنت سعيدًا للغاية لأن المملكة المتحدة أخذت زمام المبادرة في دعم مطالب حركة الاحتجاج والدفاع عن حقوقهم وتسليط الضوء على قضيتهم. لم يكن هذا فقط لأن التغيير سيجلب فرصة أكبر لدعم أهداف المملكة المتحدة، ولكن أيضًا لأنه يتوافق مع قيمنا.
من السهل الشك في أهمية القيم في العلاقات الدولية. عادة ما يُنظر إلى المصالح على أنها اهم من القيم، كما أن ازدواجية المعايير في بعض الأحيان تجعل من السهل توجيه تهمة النفاق. لكن طوال مسيرتي الدبلوماسية كنت فخوراً بتمثيل بلد قد لا يكن بلا عيوب، وفي بلد مثل السودان لديه إرث استعماري معقد، لكنه مع ذلك نصيرًا قويًا للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. هذا جعل دعم الحركة الاحتجاجية قرارًا سهلاً، حتى في الوقت الذي كان فيه الآخرون قلقون من خطورة ذلك. ولهذا السبب أيضًا اتخذنا الخطوة الحاسمة في 9 أبريل بعد أيام فقط من إنشاء موقع الاعتصام من خلال الدعوة مع زملائنا في دول الترويكا من أجل الانتقال السياسي في السودان. وبعد يومين، تمت الإطاحة بالبشير.
كانت الفترة من أبريل إلى أغسطس 2019 – من سقوط البشير إلى توقيع الوثيقة الدستورية – واحدة من أكثر فترات حياتي المهنية احتداما وكانت فترة مجزية للغاية. كان العمل الذي قام به المجتمع الدولي في ذلك الوقت لدعم قوى الحرية والتغيير من أجل الانتقال الى قيادة مدنية مهمًا للغاية ولعب دورًا في المساعدة في التوصل إلى اتفاق بشأن تقاسم السلطة وإضفاء الطابع المدني على المرحلة الانتقالية. إن حقيقة أن المملكة المتحدة قد بادرت بالدفاع بقوة وبصوت عالٍ وفاعلية واصرار من أجل قيادة مدنية لعملية الانتقال هي واحدة من أكثر الأشياء التي تشعرني بالفخر بها خلال فترة وجودي في السودان.
لقد واجهت عدد من الانتقادات: بأني صريح جدًا، وبالتدخل في الشؤون الداخلية وحتى بالتصرف كإمبريالي. على الرغم من أن دوري كسفير للمملكة المتحدة هو الترويج لمصالح المملكة المتحدة، إلا أنني لا أنظر لهذا بشكل ضيق. تتمحور مصالح جميع البلدان في المقام الأول حول الأمن والازدهار الاقتصادي. لكن لا يمكن التعامل مع هذا بطريقة مبسطة كالربح والخسارة. يؤثر الصراع وعدم الاستقرار في السودان على أمن المملكة المتحدة. يؤثر الفقر والمجاعة في السودان على المصالح الاقتصادية للمملكة المتحدة. نحن نعيش في عالم من سماته العولمة حيث الجميع مترابطون. تُظهر جائحة كوفيد وأزمة المناخ هذه الحقيقة بشكل مؤلم. كمواطن عالمي، أرى مصالحي تنعكس في التطورات في السودان.
ولذا أرى انه من واجبي استخدام منصبي المتميز في محاولة لدعم التغيير الإيجابي. من أجل نفسي وأسرتي وبلدي وشعب السودان. ما فائدة ان يكون لديك تأثير إذا لم تحاول استخدام هذا التأثير من أجل الخير؟ لذلك، إذا تعرضت لانتقادات بسبب التدخل في الشؤون السودانية، على سبيل المثال عندما أقترح أن الفشل في تشكيل المجلس التشريعي بعد أكثر من عام على موعده هو فشل في توسيع التمثيل والاندماج في المرحلة الانتقالية وبناء توافق أكبر بالنسبة للقرارات التي يتم اتخاذها، أنا سعيد تمامًا لقبول مثل هذا النقد. إنه ثمن زهيد يجب دفعه.
لقد تم تحقيق العديد من الإنجازات المهمة في المرحلة الانتقالية حتى الآن – إلغاء قوانين النظام العام البغيضة، تجريم تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، روح جديدة لحرية الإعلام، وجهود حقيقية لتحقيق حوار بين الأديان والحرية الدينية – بما في ذلك إلغاء عقوبة الإعدام في الردة، واتفاقية جوبا للسلام، وإلغاء الادراج في قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب. يجب حقاً الاحتفاء بكل هذه الانجازات. لكن السودان لا يزال يواجه العديد من التحديات. إن نجاح الانتقال ليس مضمونًا. إن ضمان تشكيل مؤسسات الحكم للمرحلة الانتقالية (المجلس التشريعي والمفوضيات الرئيسية) دون مزيد من التأخير هو أمر هام جداً.
إن استكمال عملية السلام والبدء في تنفيذ بنود اتفاقية السلام أمران ضروريان. وإن الانتهاء من الإصلاحات الحيوية (مثل تعويم العملة) هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد (والتضخم) والبدء في مساعدة الناس على الشعور بالتحسن في حياتهم اليومية. لكن مجالات الإصلاح التي أنا أكثر تطلعاً لرؤيتها هي تلك المرتبطة بالحكم والتي بالكاد بدأت، على الرغم من أنه مر ما يقرب من العام والنصف منذ بدء الانتقال: خطوات لإنشاء أنظمة قوية للعدالة الانتقالية، تحركات لإصلاح قطاع الأمن وضمان السيطرة المدنية الكاملة، تحركات لتطوير الأحزاب السياسية والاستعداد للانتخابات. والأهم من ذلك، بدء عملية الحوار الدستوري للمساعدة في تحديد نوع الدولة التي يراد ان تكون للسودان. هذه هي الإجراءات التي ستساعد في ضمان ألا يكون التغيير في السودان عابرًا. وأن لا تفشل هذه الثورة مثل ثورة 1964 أو 1985 بسبب عودة الاستبداد والحكم العسكري. من الضروري أن تُتخذ هذه الإجراءات في أقرب وقت ممكن.
على الرغم من التحديات العديدة، فإنني أترك السودان متفائلاً. نجاح هذا الانتقال يبقى في أيدي الشعب السوداني. إن الشجاعة والشغف والفكاهة والإبداع والاصرار الذي أظهره الشعب السوداني للوصول إلى هذه النقطة هو ما يجعلني متفائلاً. أترك السودان لكن السودان لا يتركني. سيبقى في أفكاري وقلبي. في أمان الله.