السودان: الدولة المُتآكلة والمصير المشؤوم

0 86

كتب: د. الوليد آدم مادبو

.

هالني منظر الجموع الأفغانية وهي تتشبث بأهداب الطائرة الأمريكية ساعية للهروب من مُسآلة تستحقها، أو من جحيم ينتظرها في ظل حكم طالبان. لم تكتف النخب الأفغانية في التواطؤ مع المستعمر، لكنها أيضاً أخلصت في تطبيق موجهاته النيوليبرالية التي لم تسع للبحث على إيجاد صيغة لتحقيق العدالة الاجتماعية قدر تعويلها على آلية السوق في محاولة لإدماج المجتمع – ولو بصورة وحشية وقسرية – في الاقتصاد العالمي الذي ظلتا الربح والفاعلية إحدى محفزاته وكانت الفردانية جل غاياته. لا غرو، فقد تفكك المجتمع وانعدمت الطبقة الوسطى المُعَوّل عليها في تحقيق الديمقراطية وصار الكل يبحث عن وسيلة للخلاص الفردي بعد أن تبعثرت أحلام الدولة الراعية للتوازنات وانعدمت الآلية المرشدة لأحلام الطبقات.

هل نرى اختلافاً بين ما حدث في أفغانستان وما يحدث في السودان؟ لم تكن أفغانستان أقل إخلاصاً من السودان في تطبيق سياسات البنك الدولي بل وفي تفعيل موجهات صندوق النقد؛ الأمر الذي تسبب في إنتشار الغبن الاجتماعي نتيجة لتردي الأحوال الاقتصادية في كلا البلدين، غير أن أفغانستان لم تعان من الضبابية الأخلاقية التي يعاني منها السودان ممّا أسهم في حسم المعركة السياسية عسكرياً، سيما أن المواجهة كانت مع مستعمر أجنبي يستخدم آلية حربية فيما تظل المعركة في السودان مع مستعمر وطني يستخدم سبلاً ناعمة للتدجين وسحق الإرادة الوطنية.

ظننت أن الثوريين، خاصة من أوكلت إليهم وزارة المالية، سيرفضون موجهات الاقتصاد النيوليبرالي لأنها ببساطة تتعارض مع التكافل كقيمة محورية في الثقافة السودانية بل في الثقافة الإنسانية، بيد أنه قد وضح جلياً أنهم يطبقون هذه السياسات دون النظر إلى الفلسفة الأخلاقية (وإذا شئت الفلسفة غير الأخلاقية) الموجهة لهكذا نظريات لم تفلح في إسعاد الشعوب قدر نجاحها في افقار هذه المجتمعات وجعلها أسيرة لحركة رأس المال. وهنا تكمن الخطورة، فإن الاقتصاد، لا يعدو كونه سياسات تنطلق من فلسفات رامية لتحقيق رؤى محددة، فما هي رؤى ساستنا ومن تولوا زمام أمرنا؟ لا اعتقد أن هناك إساءة قد لحقت بالمواطن السوداني مثل الوعود ظلل يبذلها من تولوا تنسيق برامج ثمرات. هل هذا منظور قادتنا للعدالة الاجتماعية؟ هل ستظل الخمسة دولارات التي يبذلونها للفرد هي المعادل الموضوعي للتكافل (لمن يكرهون مصطلح الإشتراكية)؟ هل يرجى من هذه السياسات تحريك العجلة الاقتصادية والمالية، توفير فرص عمل للشباب، توفير المدخلات اللازمة لزيادة الإنتاج، إلى أخره …. ؟ هل هذا الأسلوب السوي لمعالجة الإشكالات البنيوية والهيكلية في الاقتصادي السوداني؟

إن الانفتاح على العالم، والاندماج في العولمة أمر لا مفر منه، بل هو مندوحة سيما إذا استطعنا أن تحديد أولوياتنا وتعريف معالم برنامجنا الوطني، أما إذا اعتمدنا على “الآخر” في تحدي الأطر التي يجب التحرك فيها فإننا سنجنى بدل الثمار شوكاً، الأخطر إن دولتنا – التي بدأت في التأكل – سوف تنهار منذرة بانفجار سياسي واجتماعي.

لا اعتقد أن الغربيين يضمرون سوءاً بالضرورة، لكنهم يتأثرون برؤية من يلتقون في هذه السوق السياسية. لقد حضرت اللقاء الذي خاطبته سامنثا بور – مديرة المعونة الأمريكية – شهر أغسطس بقاعة الشارقة، فرأيت أن الفصيل الذي التقاها وتكلم معها لا يكاد يتجاوز خانة أيديولوجية محددة، هم أولئك النفر المعنيين بالمصادقة على الاتفاقيات الأممية، لكنهم لا ينظرون إلى ضرورة الموافقة لهذه الاتفاقيات مع الواقع الثقافي والاجتماعي في السودان. ولهذا السبب فإن موضوعية هذه المواثيق تضيع في خضم الاستقطاب الأيديولوجي، ولا تجد فرصة للنقاش الحيوي والموضوعي، الذي يبرز منطق كافة المجموعات.

لا يجوز أن يتم المصادقة على مواثيق دولية قبل أن تنال هذه المواثيق حظها من النقاش المستفيض، لأن ذلك يكسبها شرعية جماهرية ويهيئ لها فرصة تفعيل الواقع الثقافي والمجتمعي. إن تبنى منطق آحادي بغض النظر عن منشأه هو مما يدفع المجتمعات إلى حافة الإنهيار. إذن، لا بد من تداخل جميع المجموعات، يسارية كان أو يمينة، مدنية أو ريفية، وخوضها لحوار حيوي يكون فيه المجتمع الدولي رقيباً إذا اراد، لكنه لا يمكن ان يكون وسيطاً، مثل ما كان يحدث في مداولات نيفاشا أو مداولات جوبا التي دارات مؤخراً بين الحكومة والحركة الشعبية.

لقد ظن البعض أن الحوار المباشر بين الحركة الشعبية والحكومة سيزيل كثيراً من العقبات، بيد أننا نلحظ تراجع الحلو عن إعلان المبادئ في الاجتماع الأخير، الأمر الذي أذهل المراقبين الذين اعتقدوا في رشد الفريقين وقدرتهم على تخطي المصاعب بمفردهم سيما تلك المتعلقة بموضوع العلمانية. فالأخيرة لن تنجز باستصدار مراسيم أو استيراد لوائح، إنما باستحداث إجراءات مؤسسية وإتباع نهجاً للتربية والتكوين ينشد فتح آفاق للمتلقى ويُفَعِّل قدرته (أو قدرتها) على الابتكار والإبداع. إحدى هذه الإجراءات المؤسسية يتمثل في ضرورة الرجوع إلى قانون 74، ولا داعي حينها للتشبث بالمصطلح لأن ما نبتغيه هو تحقيق مستوى من التماهي بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وليس إلغاء إحداهما إلغاءً كاملاً. إن المطالبة الديماغوغية تضير بمفهوم العلمانية لأننا عوض عن تحقيق التفاعل بين القيم، العلم والسياسة، نجعل السياسة وصية على كافة المناحي المطروقة والمطلوبة في دورة تصميم السياسات.

إن استهبال النخب وطريقتها الفجة في التعاطي مع القضايا، كما التعويل على الاختلافات عوض عن المشتركات وعدم الاجتهاد في تحديد الأوليات الوطنية، قد يدفع هذا البلد نحو الهاوية. مثلا، من يزعمون أن الدولة الدينية كانت سبباً في جميع الماسي التي حلت بالبلاد، وهذا زعماً صحيحاً إلى حد ما، ينسون أن أعظم الجرائم والابادات الجماعية في العالم تمت في ظل أنظمة علمانية، فتركيا العلمانية قد أبادت الأرمن وارتكبت فيهم مجزرة كانت الأسوأ في بدايات القرن التاسع عشر، كما يجب ألا ننسى الحروب العالمية التي ذهب ضحايها الملايين من الأوروبيين. الإشكال إذن في الشمولية وتغمسها لأيديولوجيات تناسب مشروعية الاستبداد، والتي تختلف من زمن إلى زمن، ومن قطر إلى آخر.

للمسجد دوراً يجب أن يؤديه في الدفع بعجلة الاستنارة، إذ لا يمكن أن نغفل أو نهمل خطبة الجمعة التي يتفرغ لحضورها ما لا يقل عن عشرة ملايين مسلم، فهؤلاء يلزم أن تقدم لهم مادة تخاطب مشكلات اليوم والتي أصبحت متشابكة تتداخل فيها عناصر مختلفة منها الاقتصادي، السياسي والاجتماعي. فلا بد إذن من أن تعكف وزارة الأوقاف على تأهيل الدعاة، تدريبهم والتعرف على أطر تكوينهم. أمّا أن تترك المساجد للمشعوذين، المتعصبين، أو الجاهلين، فهذا أمر خطير لأن المادة الفطيرة تسهم في تغييب المجتمع أما الخطيرة (بمعنى المتزمتة) فتسهم في إزياد حدة الاستقطاب وتنجح في التفريق الجائر بين أبناء المجتمع الواحد.

لا يمكن أن يقتصر مفهوم العلمانية على فعل أداتي يفصل الدين عن الدولة أو أن نبتذل المفهوم ولا يتم تحقيقه إلا بظهور مذيعات في تلفزيون السودان بمظهر غربي ليبرالي! هذه في نظري ردود أفعال لما كانت تقوم به الأنقاذ من محاولة لطمس الهوية السودانية، ولكنها حتما ليس مواقف مبدئية يقصد منها تعزيز الفردية وتقوية دعائم الفكر التحرري أو ذاك الديمقراطي. لقد كان الدين حاضراً دوما في حياة السودانيين، لكنه لم يمثل اشكالاً إلا عندما جاءت المجموعات الدينية – تحديداً الطائفية والجبهة الإسلامية – وحاولت توظيفه توظيفاً سياسياً؛ الأمر الذي جعل الناس ينفرون وتوجسون من مجرد ذكر أحد المسؤولين لمروية من المرويات الدينية.

إن استعادة التوازن لا يكون بإبعاد الدين، إنما بإدراجه في المناهج التربوية كرافد أساسي يمد الإنسان بذخيرة أخلاقية حية ويوفر له طاقة روحية بهية، سيما أن أسلافنا المتصوفة في هذا البلد (من باب الذكر وليس الحصر)، قد تركوا لنا موروثا عظيما يمكن توظيفه كي تتمكن الدولة والمجتمع على بعث إنساناً متمدناً، متحضراً، متروحناً، والأهم منفتحاً على معطيات العصر. كل هذه القضايا لزم مناقشتها في المؤتمر الدستوري الذي لم يتم الإعداد له ولم تلح له في الأفق بارقة رغم إنه نص عليه في الوثيقة الدستورية وشدد عليه في فقرات عدة.

بعد أن تناولنا أسباب التآكل الاقتصادي والاجتماعي لزمنا التطرق لتلكم الأسباب السياسية والعسكرية.

إذا أقررنا بان العدالة هي أساس الاستقرار السياسي والاجتماعي، فقد وضح جلياً أن هذا الملف قد تم التلاعب به، فما يجري من محاكمات الحالية ما هي إلا مسرحيات يتوخى منها تخدير المواطنين وليس إنصافهم. إذا كانت جريمة “فض الاعتصام” هي الأخطر فهي حتما ليس الأعظم، فهناك جرائم الإبادة الجماعية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. إن هناك ارتباطاً بين الجريمتين، إذا إن المتهمين الاساسين والمتورطين هم ذات المجموعة التي ظلت تتحايل على القانون، بل سعت في بعض الآحاديين لإلغائه مستعينة ببعض المحاميين والقضاة منعدمى الضمير، ويوم أن أسندت قضية التحقيق في فض الاعتصام إلى نبيل أديب، علمت بأنهم إنما يسعون لمعالجة الجريمة الجنائية سياسياً، وها هو الأخير يمارس الابتزاز السياسي من خلال تصريحاته خاوية المحتوى والتي يطل بها من وقت لأخر.

المخرج من هذا المأزق يتمثل في ضرورة استشعار الورطة الأخلاقية التي نحن فيها، فمجرد سماحنا للعسكر للمشاركة في الحكم، كنا قد أدخلنا أنفسنا في ورطة لا يمكن الخروج منها إلا بتدابير سياسية وليس جنائية كأن يسعى فصيل لتجريمهم أو تجريم أشخاصاً بعينهم ومن ثم إبعادهم من الحكم، فهم رغم ما يبذلونه من وعود لن يتركوا الحكم أبداً إلا إذا أعطوا حصانة تفسح المجال لمحاكمة الآخرين واسندوا ضمانة تحول دون المسآلة.

هذا عن العسكر الذين هم في المجلس السيادي، أما بخصوص قوات الجبهة الثورية، فهناك غير الورطة الأخلاقية التي تمثلت في إعفاء عتاة المجرمين من المسآلة، أزمة وجودية تتمثل في إعطاء إثنية بعينها حق التقرير في شأن الإقليم دون غيرها من الاثنيات العديدة الآخرى. وهي هي الحركات في كولقى تستغل قوتها العسكرية في محاولة لحسم خلافاتها مع الأهالي علما بأن النزاعات في موضوع الأراضي خصصت لها مفوضية، واعتمدت لها مواثيقاً وأعرافاً، وحددت لها مؤتمرات لمناقشة التسويات وتعريف أسس الحكامة.

إن الترتيبات الأمنية التي يروج لها البعض على أساس أنها الحل، ستفاقم من شأن الأزمة، لأنها ستسوعب في أحسن الفرص 30% من حاملي السلاح، فيما ستظل 70% من القوى المقاتلة خارج دائرة الحل، أي ما يقارب 70 ألف مقاتل غالبيتهم من العرب والفور والمساليت. بمعنى آخر ستستبعد الترتيبات الأمنية أصحاب السلطنات الكبرى، هذا إذا قيض لها أن تتهم، لأن النخب المركزية التي تهيمن على المؤسسة العسكرية تريد أن تستأثر بالمشهد وتود أن تهيمن على أخر قلاعها، وذلك قبل أن يتم اقتلاعها – هذه المرة بالقوة وليس بالتحنيس – ومن يتعللون بعدم أهلية الحركات المسلحة ينسون أن هذه الجيش قد نال فيه مدنيون رتباً عليا وساد فيه جنرلات لم يعرفوا الخنادق ولا البيارق، إنما كان جل تجوالهم في الخرطوم ما بين مؤسسات الجيش الاقتصادية ومؤسسات الأمن التجارية.

باختصار لا يوجد هناك جيشاً، كما لا يوجد هناك مؤسسة حزبية أو سياسية. كل ما في الأمر أن هناك عصابات تواطئت فيما بينها وتعاضدت كي لا يحدث هناك تحولاً حقيقياً في مجريات الأمور، إنما مجرد تغيير للأفراد والآحاد. ولذا فإنني موقن بأن ثلاثتهم (الجيش، الجبهة الثورية، وقحت) لا يسعون لإجراء انتخابات، لأن أفضل ما قد ينالون هو التصويت العقابي (معاقبتهم على ما الحقوه بالموطنين من ضنك)، إذا غاب ذاك البرامجي (الذي يتطلب مستوى من الوعي).

إن إعطاء الحصانة لأعضاء اللجنة الأمنية من شأنه أن يفك الارتباط غير العضوى بين الجيش وقحت، وبين الجيش والجبهة الثورية، لحظتئذٍ يمكن أن يتنازل العسكر عن الحكم ويبدوا استعداداً ليصبحوا شهود ملك في جريمة هي الأخطر من بين الجرائم كلها في التاريخ السياسي الحديث. لم يبدأ التحقيق بعد في الجريمة التي شملت إعدام الأسرى في معركة قوز دنقو، كما لم يعرف حتى الأن مصير الأسرى من معارك الإنقاذ كافة!

كيف يمكن أن تقوم انتخابات ونحن بعد لم نتكلم عن نظام الحكم في السودان: هل هو رئاسي أم برلماني أم مزيج من الاثنين مثلما ما هو الحال في المانيا؟ وإذا كان رئاسي فهل سيكون رئاسياً على الطريقة الامريكية أم على الطريقة الفرنسية؟ من الذي سيقرر في هذا الأمر؟ هل هم السياسيون أم المفكرون أم الزلنطحية والمهرجون الذي افرزتهم المؤامرات الأخيرة؟ ما هي سمات قانون الأحزاب وما هي فلسفة قانون الانتخاب؟ هل يمكن ان تمثل دائرة بخمسة الاف نسمة فيما تمثل أخرى بمليون نسمة؟ أين نحن من الترتيب للإعداد السكاني، بل أين نحن من تحديد عضوية المجلس التشريعي الذي من المفترض أن يفصل في هذه القضايا ويقنن للسياسات في شتى المجالات؟ ما هي المعايير أو الأسس التي يمكن أن تؤطر للعملية الديمقراطية؟ هل سيكون هناك نظاماً للعزل؟ هل سَيُفعَّل “قانون من أين لك هذا”، خاصة أن هناك سياسيون أدمنوا العهر ولن يتورعوا عن خوض العملية الانتخابية وتوظيف ما لديهم من أموال منهوبة؟.

ختاماً، ليس هناك ما يدعو للتفاءل في القريب العاجل، ذلك أن الإنقاذيين يتواجدون في الدوائر الأكثر حساسية في الدولة، تحديداً في الجيش والأمن والشرطة. وهم بعد لم تطولهم المسآلة إلا من بعض الإجراءات التي لا تعدو كونها مسرحية يقصد منها تلهية الجمهور.

ما لم يتم إزاحة الحرس القديم، فإنه لا يمكن أن يحدث تغييراً في توجه هذه المؤسسات التي لا تخلو من قلة مخلصة ومؤمنة بأهمية الإصلاح المؤسسي ومعنية بمعالجة الخلل .النفسي لأفراد هذه الوحدات كي تستطيع ممارسة دورها في حراسة الدولة والمجتمع.

لا بد من رؤية وطنية إذن تعالج الانقسامات في المجتمع وتعيد النظر في السياسات الاقتصادية التي سحقت الإنسان السوداني واورثته مواطن الهلاك، فهذه العوامل متضافرة من شأنها أن تمثل وقوداً لحرب أهليه دوافها معيشية وغاياتها وطنية ووسائلها قمعية. هلا تداركنا الأمر قبل فوات الأوان؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.