الصادق المهدي .. مُهندِّس كوارث الهامش و أزمات السُّودان

0 104

 

بقلم : عادل شالوكا

ألقى الصادق المهدي خطاباً مُضلِّلاً بالورشة التي أقيمت بجنوب كردفان بتاريخ 4 يوليو 2020، وهي ورشة أقيمت للنظر في النزاعات الإثنية و القبلية التي تفاقمت مؤخَّراً. بالطبع لم نندهش لخطاب الصادق المهدي لأنه لا يمكن أن يقول شيئاً آخر خلاف ما قاله، إذ صب جام غضبه على الحركة الشَّعبية و مؤسِّسُها الدكتور/ جون قرنق ديمبيور، و إنتقد إتفاقية السَّلام الشَّامل 2005 و وصفها بـ(الفاسدة)، و (نظَّر) كعادته للمُستمعين عن ما أسماه (نزاعات الخاصرة) – و يقصُد بها النزاعات العرقية الدامية في عدة مدن في السُّودان. و لم ينسى بالطبع أن يُروِّج لـ(عقده الإجتماعي الجديد). و لكن هنالك حقائق لأبد أن يعرفها الجميع و هذا ما دفعنا لكتابة هذا المقال، فلقد ذكر الصادق المهدي إنه :

(في مرحلة المواجهة العدائية قالت الحركة الشَّعبية بقيادة المرحوم جون قرنق إن النزاع في السُّودان ليس جهوياً بين شمال و جنوب، بل إثني بين عرب و أفارقة و رفع شعار إجلاء العرب من المنطقة) …. !!!.

لا ندري من أين أتى الصادق المهدي بهذا “التَّصريح” ؟. و من أين جاء بهذا “الشعار” الغريب، و عن أي حركة شعبية يتحدَّث ؟ و عن أي (جون قرنق) ؟ فالحركة الشعبية عندما دخلت جنوب كردفان كان أول ما فعله القائد/ يوسف كوة مكي – إنه أرسل خطابات لعمد و مشايخ (البقَّارة) يوضِّح لهم فيها إن الحركة الشعبية تُقاتل الحكومة المركزية في الخرطوم و ليست لديها مشكلة مع أيٍ من مُكوِّنات شعب الإقليم. كما قام بإطلاق سراح كل من تم القبض عليه من “البقَّارة” بإعتباره عدو “مُتخيَّل”، أو “يتخابر” مع العدو. و حمَّلهم تلك الرسائل للعُمَد و الإدارات الأهلية في مناطقهم. و لكن الصادق المهدي هو الذي أطلق هذا الشعار ليجد المُبرِّر لتسليح و تجييش البقَّارة ضد النوبة في الإقليم. و هذا ما قام به فعلياً في الفترة (1986 – 1989) عندما كان رئيس الوزراء، و هو شخصياً كان وراء كل الكوارث و جرائم الحرب و الإبادة إلتى لحقت بمواطني جنوب كردفان منذ الستينات و حتى اليوم . حيث أكَّد هذا في خطابه المذكور، عندما قال أنه مكث ثلاثة أشهر بجنوب كردفان فى 1958، ثم مكث فيها أكثر من أربعة أشهر أخرى من ديسمبر 1960 و حتَّى أبريل 1961 طاف خلالها جنوب كردفان من أقصاها إلى أدناها خمسة مرات، و إطَّلع على التعدُّد و التنوُّع، و وصف المنطقة بقوله : (أن هذه المنطقة هي السُّودان مصغراً)، و أن مصيرها ينعكس سلباً أو إيجاباً على السُّودان الكبير.

لقد قرَّر الصادق المهدي هندسة مُستقبل المنطقة إجتماعياً منذ ذلك الوقت المُبكِّر من عمر البلاد بعد خروج المُستعمرين لتستمر آثار و تداعِيات أفكاره الشَّريرة تلك إلى يومنا هذا في شكل إقتتال و نزيف و أهوال يصعب توصيفها. و نحن نشكره على كشف الحقيقة عن تلك الزيارات التي وفَّرت لنا إجابة، و قدَّمت لنا تفسيراً لما كان متداولاً من معلومات عن دور الصادق المهدي فى تحريض (البقَّارة) فى عام 1967 لإحتلال أراضى النوبة. فالمُتداول أن الصادق المهدي قال للمناديب (العُقداء) من قبائل البقَّارة الذين قاموا بتوريد (الزكوات) أو “الإشتراكات” بالمفهوم الحديث و التي تُجمع سنويا و تُرسل إلى دائرة المهدي ( بيت مال الأنصار- حزب الأمة)، قال لهم :

(“ضهر التور” لن يكون لكم وطناً .. و لذلك عليكم بإحتلال أراضي فى مناطق النوبة الغنية بالمراعي و المياه و الصالحة للزراعة بدلاً عن أراضي القوز القاحلة و التِّرحال المُستمر).

و بعد ذلك، و منذ العام 1968 بدأ (البقَّارة) في إحتلال المواقع و الأراضي الواقعة على ضفاف “الخيران” و “الوديان” الغنية بالمياه على طول المسارات و المراحيل من شمال كردفان (علوبة، جعيبات، الحمَّادي … إلخ – الموطن الأصلي للبقَّارة – إلى أقاصي المناطق الجنوبية من مديرية جنوب كردفان). و هذه التحرُّكات بالطبع كانت مدعومة بواسطة جهاز الدولة المُتحيِّز ، و في ظل عدم إمتلاك النوبة للسِّلاح.

مرة أخرى قام الصادق المهدي بصب الزيت على النار عندما قام بصياغة قانون الأراضي غير المُسجَّلة فى 1967، و لكن بسبب فقدانه لموقعه كرئيس وزراء لم يتمكَّن من إجازته حتَّى جاء (جعفر نميري) و تبنَّاه ليُصدَر بإسم : (قانون الأراضي غير المُسجَّلة لسنة 1970) و الذي إعتبر أن كل الأراضي غير المُسجَّلة بـ”مناطق الهامش” ملك للدولة، و ذلك حتَّى يتم مصادرتها و توزيعها للتُّجار و المُتقاعدين من الإداريين لإقامة مشاريع الزراعة الآلية الواسعه و بدعم مالي و تسهيلات كبيرة لأولئك المُلَّاك الجُدُد بواسطة البنك الزراعي. و مرة ثالثة قام الصادق المهدي أثناء رئاسته الثانية لمجلس الوزراء في ما يُسمَّى بالديمقراطية الثالثة، بإنشاء (قوات المراحيل) بصفة أساسية فى جنوب كردفان، أي قام بتسليح (البقَّارة) الرُحل ضد النوبة و دينكا أبيي رغم أن الذريعة التي ساقها هي مقاومة الجيش الشَّعبي الذي يُقاتل فى الجنوب. و لكن الواقع أن المُستهدف الأساسي هم (النوبة) و أراضيهم. و لكنه و للمرة الثانية لم يتمكَّن من إجازة مسودَّة و مشروع (قانون إنشاء قوات الدفاع الشَّعبي) بسبب إبعادِه من رئاسة الوزارة عبر إنقلاب (الجبهة الإسلامية القومية) التي سُرعان ما تلقَّفت الفكرة و قامت بإجازة “قانون قوات الدِّفاع الشَّعبي” و هذه القوات (الدفاع الشَّعبي) هي التي نفَّذت مع القوات المُسلَّحة السُّودانية أبشع الجرائم ضد النوبة من : (تشريد، تهجير، أبادة، إحتلال الأراضي، و إرتكاب أفظع الإنتهاكات). و هذه الإنتهاكات ما زالت مُستمِرَّة حتَّى اليوم.

جميع (الفظائع، الفتن، و الجرائم) كانت نتاج لزيارات الصادق المهدي التي ذكرها في خطابه، و التي تمَّت فى نهاية الخمسينات و بداية الستينات لمنطقة جنوب كردفان، و كل (الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، و الإبادة) كانت من بنات أفكار الصادق المهدي و تصوُّراتِه المريضة عن الدولة (الإسلاموعروبية) القائمة على الأُحادية الثَّقافية و مبدأ النقاء العِرقي .. و الذي إستوجب إبادة (غير العرب) و إحتلال أراضيهم.

الذي يؤكِّد حقيقة ما ذهبنا إليه هو دور الصادق المهدي فى مذابح و جرائم الحرب الجارية في دارفور حتَّى الآن. حيث كان دوره – بجانب حسن الترابي – فى مؤتمر (فرولينا) بنيالا 1967 كبداية للتَّخطيط و التآمر ضد (الزُرقة) في دارفور. ثم بدأ فعلياً و إنفرد في 1987 بتبنِّي و دعم مشروع (التجمُّع العربي) الذي قدَّمه (عبد الله صافي النور، و عبد الله مسار .. و غيرهم). و تكفي ورقة الصادق المهدي : (خمسة خطوات لأسلمة و تعريب جنوب السُّودان) و دورها فى دفع شعب جنوب السُّودان لإختيار الإنفصال و الإستقلال للعيش بعيداً عن مثل هذه العقليات الشريرة.

أمَّا إنتقاد الصادق المهدي المُستمر لـ(نيفاشا 2005) لدرجة إصداره كُتيِّباً بعنوان : (اتفاقية السَّلام و الدَّستور في الميزان – مايو 2005) – كما ذكر في خطابه – فذلك لأن الصادق المهدي لا يختلف كثيراً عن صاحب “منبر السَّلام العادل” الطيب مصطفى في تصوُّراتِه المريضة، فهما – و آخرون غيرهما كذلك – لا يتقبَّلان إتفاقية تضع من يُفترض أن يكون (محكوماً) طوال حياته، في درجة واحدة مع الذي من المُفترض أن يكون (حاكماً) إلى أن تقوم السَّاعة. كيف يتساوَى أحفاد (الرقيق) مع أحفاد (الزبير باشا). و كان توزيع الأدوار بينهما واضحاً : هذا يصدر “كتاب”، و الآخر يؤسِّس “صحيفة” حتَّى تكون التعبئة العنصرية مُستمِرة بصورة يومية، و لذلك كان من الطبيعي أن يقع إنفصال الجنوب. و هذه العقلية يُمكن أن تقود إلى وقوع (إنفصالات) أخرى، و هذا يُفسِّر تعثُّر الوصول إلى إتِّفاق سلام حتى هذه اللحظة برغم سقوط (النظام البائد) و برغم إن الحكومة هي (حكومة ثورة)، و لكن عقلية الصادق المهدي (مُهندِّس أزمات السُّودان) لا زالت موجودة .. و لا زالت هي المُسيطرة على المشهد في السُّودان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.