العود السوداني.. نهضة متأخرة

0 93
كتب: صلاح شعيب
.
استعرنا آلة العود من التركية، ثم العرب، وأخيرا خضعنا لمنهجهم لتدريب أبنائنا، وبناتنا، الذين لم يشأ المعهد العالي للموسيقى والمسرح تبنيهم لزرع الإحساس السوداني بتكنيك يخرج من هذه المؤسسة التي قاربت على الاحتفال بيوبيلها الذهبي. ولعلنا ندرك أنها بعثت الطالب الماحي سليمان الذي تخصص في العود، وآخرين، قبل أربعين عاما، ولو كان هناك متخص بارز في العود لكان هو الذي أخرج ألحانًا جميلة بقدرته الجيدة في عزف العود، ولعل هناك طلبة كثر استفادوا منه في هذا الصدد.
ومع ذلك فإن الرهان هو أن يستفيد هؤلاء الشباب من رصيد بيت العود العربي الذي اضطلع عازف العود الفلتة نصير شمة بتبني تخريج طلبته في الأقطار العربية. ولو أن عدداً من طلابنا المبعوثين من المعهد قد درسوا منذ السبعينات تقنيات الشيلو، والبيانو، والكمنجة، في روسيا، والكونسرفتوار في مصر، ووظفوا دراساتهم في تحسين الأداء في عزف هذه الآلات فإن المنتظر هو أن يعود دارسو بيت العود العربي باستفادة توظف لمقتضى تطوير الأداء الآلي للعود، وأن يكونوا عوناً للاوركسترا السودانية التي تهمل العود، ولا تمنحه الفرصة للصولو كما تجدها الكمنجة، وغير محمد الأمين لا يوجد هناك فنان اهتم بصولو العود مثله.
وتجارب الإذاعة السودانية كانت غنية في منح العود مكانته في الأوركسترا، ونتذكر أكثر دور عود برعي في ألحانه التي منحها للفنانين، وعود بشير عباس، وعلي مكي، وغيرهم الذين كانوا ضمن فرقة الإذاعة، ونافسوا كمنجات عبدالله عربي، ومحمدية، والخواض، في متن الأغنية. والملاحظ أن معظم الفنانين يهملون توظيف عازف عود في فرقهم، ومنح بعض الصولو للعود، ويفضلون أن يذهب الصولو للصفارة، والجيتار، والساكس، والاكورديون. وحتى في تسجيلاتهم للشركات لا تجد أثرا لحق العود في التوزيع الاوركسترالي. وفي الآونة وجد عود عوض أحمودي مكانته في فرقة برنامج “أغاني وأغاني”، وذكرنا بصولات برعي، وبشير عباس، في فرقة الإذاعة السودانية.
وآلة العود هي التي شكلت معظم الألحان السودانية لكونه أفضل في ابتدار العمل الميلودي الذي يعبر عن أحساسنا السوداني الجمعي. ذلك على الرغم من أن تجارب موسيقى الأقوام السودانية الأخرى في الغرب، والشمال، وحتى الوسط، اعتمدت الآلات الشعبية السودانية. ولكن لأن الانحياز كان للعود لم تكن هناك خطة لتطوير آلاتنا الموسيقية التي لعبت دورا قبل حلول زمن العود رسميا في المشهد الغنائي. وللأسف إذا كان العود مظلوماً مع آلات الاوركسترا الأخرى فإن آلاتنا المحلية مظلومة “ظلم الحسن والحسين” فلا حاجة للإذاعة السودانية التي كانت تسعى لتنميط الذوق الغنائي السوداني للاستعانة بالطمبور، أو أم كيكي، أو النقارة، أو البالمبو. بل إن أغاني المناطق الأخرى تقدم بهذه الآلات الشعبية في كردفان ودارفور، إذ هناك تؤدي النقارة دورا، وقد قدمت أعمال الإقليمين بدونها، كما أن أعمال الطنبور لوسط السودان، وشرقه، وشرقه، خضعت للآلات المتسودنة، وبالتالي لم نكتشف جماليات النقارة في إيقاع المردوم، أو الطنبور مع إيقاع الدليب داخل الفرقة الموسيقية المكتملة. وقد وقفنا تاريخيا فقط عند تجربة ضم الطمبور في أغنية الود التي وزعها اندرية رايدر لوردي، وتجربة علي السقيد في توظيفه في اغنية المشاوير.
-٢-
إن التخصص الأكاديمي في آلة العود وإجادة عزفها شيء والتأليف الموسيقي شيءٍ آخر . فمن تجاربنا أن أفضل عازفي الآلات في تاريخ المشهد الموسيقي والغنائي ليسوا بمؤلفين الألحان، والمقطوعات الموسيقية، ولا ينبغي بالضرورة، شأنهم في ذلك شأن بعض الفنانين الكبار. بل إن فنانا ملحنا فلتة مثل الكاشف لم يكن ليعزف العود حتى، والأكثر من ذلك أن أجمل ألحان الحقيبة لم تستخرج بنغمات العود. وعزف العود وحده لا يجعل متقنه موسيقارا، فخياله في استنباط اللحن بمقدمته، ولزماته، هو الذي يكشف لنا عن ملكته الموسيقية الفائقة. ولذلك لا بد أن تكون استراتيجية بيت العود السوداني واضحة فيما خص الهدف من إنشائه. على أن البيت يستطيع أن يردم الفجوة بالاستعانة بأساتذة المعهد المتقاعدين في تدريس طلبته نماذج التأليف الموسيقي للملحنين والفنانين الكبار الذين وظفوا العود لصب الألحان. فحتى الآن لا توجد دراسات جادة نقف عليها حول أساليب عازفي العود الملحنين أمثال عثمان حسين، وبرعي محمد دفع الله، وبشير عباس، وعمر الشاعر، ووردي، ومحمد الأمين، وأبو عركي البخيت، والقائمة تطول.
لقد استصغر المعهد العالي للموسيقى والمسرح هؤلاء المبدعين وإلا لاهتم بعمل رسائل ماجستير، ودكتوراة، تتخصص في أسلوب تأليف الكابلي، ومصطفى سيد أحمد، وعبد الطيف خضر، وأحمد المصطفى، وغيرهم، وذلك حتى يتشبع الطلاب بالحس السودانوي، وبالتالي يستطيعون تنمية التأليف الغنائي بعد أن يدركوا الخصائص التي جعلت ميلودية هؤلاء الملحنين الأفذاذ مقبولة، إذ كل ما جاء جيل وجدها أكثر ثراء وقدرة على جذب اهتمامه. فأمر التأليف اللحني والموسيقي ليس أمر قفز في طريقة التجريب. وإنما استناد التجريب نفسه على روح فني متصل بذائقة الجماهير هو مفقود في كثير من أعمال المؤلفين الجدد في الثلاثين عاما الماضية.
على مستوى الميديا الحديثة فقد سهلت لهواة العود الفرصة لخلق صفحة باسم “أصدقاء العود السوداني” ويقف على الإشراف عليها عازفون مهرة للعود أمثال الأستاذين الوافر شيخ الدين، وأشرف عوض. وقد لاحظنا اهتمامهم دون أن يجدوا أي دعم رسمي برعاية بعض الشباب الراغبين في خوض المجال. وقد ظهرت من خلال هذه المجهودات مواهب تبشر بمستقبل واعد، ويملكون إحساسا بديعا في عزف العود بأساليب متعددة.
-٣-
في حوار بديع قدمته الأستاذة مشاعر عبد الكريم عبر برنامجها “منتصف الليل” قدمت سهرة عن العود تخليدا لذكرى الملحنة أسماء حمزة مع الأساتذة علي الزين ومجاهد عمر، ومجاهد خالد الذي تخرج من بيت العود العربي حديثاً. وقد تحدثوا على هامش المناسبة عن أهمية العود التاريخية في رفد التأليف الموسيقي السوداني وتناولوا سيرة أسماء لكونها من عازفات العود، ورائدات التلحين. ولعلها هي أستاذة بشير عباس في العود، وأتت تالية للجداوية شقيقة عائشة الفلاتية وهي من أوائل عازفات العود، كما تدل بعض المصادر. وقد شاهدنا اهتماما نسويا بآلة العود في الفترة الأخيرة، وظهر في المجال عدد من العازفات اللائي أظهرن قدرة على منافسة الشباب، بل لاحظنا إنهن يتطورون باضطراد.
صحيح أن الأهمية القصوى لآلة العود التي تسودنت على يد عازفين رواد تتمثل في دورها في تفجير طاقات الملحنين والموسيقيين. ولكن لعب العود دورا اجتماعيا في الترويح عن السودانيين في ملماتهم عبر الهواة في كل المدن السودانية وما يزال يشكل لهواته من جانب آخر انيساً حتى جاء زمان الاورغن الأشمل في إمكانياته. ولكن يبقى العود بنبرات صوته الرخيمة، وسهولة رفقته، محرضا على الدوام لتشذيب الأنس الاجتماعي.
ولهذا نشجع كل المحاولات الرامية داخل السودان وخارجه للاهتمام به من حيث أنه آلة موسيقية مؤثرة في الوجدان السوداني، ولكونه يخلق مساحة للتلاقي الاجتماعي الترويحي.
وبمثلما أن بيت العود العربي قد وجد الدعم الكبير بحسبه يساهم في تنمية مهارات الشباب العربي في هذا المجال فإننا نأمل من الجهات الرسمية والمؤسسات المعنية بدعم بيت العود السوداني من كل النواحي، والسعي لتوفير المواد الخام لصناعة الآلة في البلاد. ومن ناحية أخرى نتمنى أن تقوم وزارة التربية والتعليم بتعليمه ضمن مناهج موسيقية، جنبا إلى جنب مع الاهتمام بالآلات المحلية، وتكوين فرقة موسيقية من مراحل تعليم الأساس حتى ننمي ذوق التلاميذ، وذلك بعد أن صار تدريس الموسيقى أمرا منتشرا في كل العالم، لكونها تسهم في تشذيب ذوق الأجيال، وحملهم على تنمية الخيال، والانضباط، والابتكار. وليكن التنافس في المستقبل بين المدارس على مستوى الثانوية حول تقديم كل منطقة لتراثها الموسيقي بآلاتها، وأنغامها، وإيقاعاتها المحلية الموظفة ضمن الآلات الحديثة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.