الكوارث تعين على تعديل العقل
كتب: د. النور حمد
.
تحدَّث الناس كثيرًا عبر التاريخ الروحاني للبشر عن أن من الممكن أن تكون النِّقمة نعمة. وبطبيعة الحال، لا نستطيع أن نرى النِّقمَةُ نعمةً لأنها ذات تأثيرٍ حسي ضار ومباشر. لكنها رغمًا عن ذلك كثيرا ما تتحول إلى نعمة بتأثيرها الإيجابي على العقول وسوقها لتعديل مسارها. يرى العلمانيون الفلسفيون في مثل هذا التصور منحى قدريًا استسلاميًا، يحيل كل شيءٍ إلى إرادة الغيب. ومن ثم يجرد الإنسان من حرية الفعل تجاه ما تواجهه به الطبيعة. غير أن هذه النظرة، في تقديري، لا تتسم بالعمق المعرفي الكافي. ويعود قصورها إلى أن العلمانية الفلسفية تفصل فصلاً قاسيًا بين العقل البشري والعقل الكوني. بل هي لا تؤمن أصلاً بوجود عقلٍ كوني، وتعزو كل ما يحدث من كوارث إلى عشوائية تمثل السمة الأساسية في سلوك الطبيعة.
تنحو الاتجاهات الروحانية والفلسفية القديمة ومماثلاتها الأكثر حداثة، إضافة إلى بعض تيارات العلوم الطبيعية، إلى القول بأن اختيارات العقل البشري محاطٌ بها من قبل العقل الكلي. فالديناميات الباطنية المودعة في بنية القوى والتي بها تحدث حركة الوجود، لا تعمل في الطبيعة وحسب، وإنما تعمل في الطبيعة وفي العقل البشري، على السواء. فالعقل البشري ليس خارجًا عن قبضة قوانين الكون، ولا يملك حرية الاختيار المطلقة كما يتوهم. فهو موحى إليه من العقل الكلي في جميع أحواله، ولكن بلطف وخفاء يجعلانه يتوهم حرية الإرادة والاختيار. وهذا مجال فسيح للأخذ والرد، ليست هذه مكانه وليس هذا حيزه المناسب.
يتيح تعميق المفاهيم المتعلقة بعلاقة العقل البشري بالعقل الكلي فرصةً لفهم الكوارث على نحو مركَّب، يخرج من قبضة النظر إلى البلايا بوصفها أحداثًا تجريها قوى غاشمة عمياء، لا تبالي بمصيرنا. بعبارة أخرى، يفتح الفهم العميق لعلاقة العقل المحدث بالعقل القديم لنا الباب لننظر إلى البلايا، على نحو جديد. فالقصص القرآني المشار اليه بالآية الكريمة «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ»، إنما يشير ضمن ما يشير إلى هذا التعلُّم. فما حاق بأمم كثيرة من بلايا ماحقة، كليًا أو جزئيًا، يقع ضمن مضمار التعلم الأزلي السرمدي. ومما يمكن أن نتعلمه من كارثة الفيضان التي جرت بهذه الوطأة غير المسبوقة، أن عقلنا الفردي والجمعي، بحاجة إلى تعديل. وأكثر ما يحتاج التعديل هو عقل النخب. فقد ظللنا منذ الاستقلال منحصرين في الذاتي مع نقص كبير في الالتفات إلى الجمعي المتعلق بالصالح العام. وعلينا أن نفهم هذه الكارثة كجرس إنذار مبكر.
يتسم مجتمعنا السوداني بسمة التعاون. وهي سمةٌ قضى عليها النظام الرأسمالي في كثيرٍ من المجتمعات التي تحكم فيها تحكما كليا، لكي يتيح للمالكين مجالاً أكبر للربح. ومن عناية الله بنا أن الرأسمالية لم تبلغ درجة التحكم في حياتنا هذه الدرجة. غير أن ثقافة التعاون والنفير التي نتمتع بها، بقيت ثقافةً غير فاعلة، في واقعنا الاجتماعي، سوى في حدودٍ ضيقة. في مثل الكارثة الراهنة تخرج هذه السمة الثقافية الحميدة للتجلي في الجهد الشعبي على مستوى أكبر وأوسع، كما نشاهد الآن. غير أن المطلوب هو أن تحدث الكارثة الراهنة نقلةً تحدث تناغمًا مؤسسيًا بين الجهد الشعبي وبين التخطيط المؤسسي. فربما تكون هذه الكارثة مجرد إشارة إلى نمطٍ جديدٍ في سلوك الطبيعة في بلادنا، قابل لأن يتكرر. وهو أمر يقتضي تحولاً في العقل السائد ليصبح قادرًا على استباق الكوارث وعلى إحداث مأسسةٍ لنزعة التعاون والنفير، بها ترتفع مجمل الطاقات إلى مستوى هذا التحدي الجديد.