“المصالحة” بين ما أعني وتخرُّصات المرجفين (2 – 7)
كتب: د. النور حمد
.
ختمت المقالة الأولى من هذه السلسلة بقولي: “لم أدع، ولن أدعو، لرفع الحظر عن المؤتمر الوطني، طيلة الفترة الانتقالية. ولم أدع، ولن أدعو، إلى الإفلات من العدالة لأي من رموز الانقاذ الذين يواجهون تهما جنائية، أو تهما بسرقة المال العام، أو استغلالا للنفوذ؛ على أي صورة كان”. فدعوتي هي لمناقشة فكر الإسلاميين، وهو الواجب الذي انصرفت عنه القوى السياسية السودانية، وانصرفت عنه الأكاديميا، وانصرف عنه الإعلام، وانصرفت عنه المناهج الدراسية، وانصرف عنه عامة المثقفين.
من الخطأ أن نظن أن الإسلاميين بقوا في السلطة بقوة الحديد والنار، والقبضة الأمنية المشددة وحدها. فهم قد بقوا كل تلك المدة الطويلة، لأنهم استخدموا، الخطاب الديني الذي سوغ لهم إحكام تلك القبضة الحديدة. احتل الإسلاميون عقول البسطاء المحبين أصلا للدين، القابلين للتضليل به. ولو عدنا إلى عقد الستينات من القرن الماضي، لوجدنا أن النخب السياسية مثال: السيد إسماعيل الأزهري، والسيد الهادي المهدي، قد رضخت لابتزاز الإسلاميين. فقد خشي المهدي والأزهري، أن يسحب الإسلاميون البساط من تحت أرجل حزبيهما الكبيرين بالشعار الديني. فتبنى كل من حزب الأمة والحزب الاتحادي الديموقراطي، دعوة الدستور الإسلامي التي رفعت رايتها، جبهة الميثاق الإسلامي، التي كان يتزعمها الدكتور حسن الترابي. المثقف الوحيد، الذي ناهض دعوة الدستور الإسلامي، بوضوح رؤية وبشجاعة، كان الأستاذ محمود محمد طه. ولذلك، حيكت له مؤامرة محكمة الردة في عام 1968.
التاريخ يعيد نفسه
من الحكم القديمة، الحكمة القائلة: “كل تجربة لا تورث حكمة، تكرر نفسها”. ما حدث من مباركة الأزهري والسيد الهادي المهدي وانخراطهما بثقل الطائفتين الكبيرتين في مشروع الدستور الإسلامي، الذي رفعت رايته جبهة الميثاق الإسلامي، بقيادة الدكتور حسن الترابي، في ستينات القرن الماضي، تكرر، مرة أخرى، في هذه الفترة الانتقالية، في نسخة مصغرة. نجح الإسلاميون ومن ينجرون خلفهم عادة من أهل الأحزاب الطائفية، وبعض شيوخ الطرق الصوفية، في دمغ المكون المدني في الحكومة الانتقالية بالعلمانية، والعمل على ما أسموه “هدم قيم المجتمع السوداني المسلم”. كما قاموا باستعداء المكون العسكري على الحكومة المدنية، الذي هو أصلا امتداد لعقلية الإنقاذ، والذي هو أصلا كارهٌ ومحتقرٌ للمكون المدني.
لقد نجحوا في إقصاء الوزراء واحدا بعد الآخر، بدءًا بأكرم علي التوم، وانتهاء بولاء البوشي، ولينا الشيخ، وهما من مثلتا شباب الثورة في الوزارة. وانتهاءً بوزير التربية والتعليم، الدكتور محمد الأمين التوم. كما اضطروا الدكتور عمر القراي إلى الاستقالة عبر حملة شعواء طويلة من الشيطنة، انضم فيها إلى جموع الإسلاميين، حزب الأمة، بقيادة الزعيم الراحل، السيد، الصادق المهدي، ومن بعده أجهزة حزبه. أُقيل السيد، وزير التربية والتعليم، الدكتور محمد الأمين التوم، وتعطل تنقيح المناهج، وتوقفت عملية الإصلاح التعليمي، وارتبك العامان الدراسيان؛ الذي انصرم، والمقبل. والمُحيِّر، أن رئاسة الوزارة، تركت وزارة التربية والتعليم بلا وزير، لمدة توشك أن تصل، الآن، إلى ثلاثة أشهر. وأعتقد أن السبب هو التدافع بالأكتاف بين القادمين الجدد، في معركة المحاصصات. وها هي الوزارة تقف على أعتاب العام الدراسي الجديد، ولا تزال بلا وزير. لقد ألحق امتداد الانقاذ داخل الفترة الانتقالية هزيمة ماحقة بالثورة، في هذه المعركة. ويبدو أن أكثرية الثوار ظنوا أن المعركة منحصرة في شخصية القراي، وفي انتمائه المُشيطَن أصلا، فوقفوا على السياج يتفرجون، إلى أن انجلى غبارها على النحو الذي جرى.
ما أريد أن ألفت إليه النظر هو قوة الخطاب الديني الغوغائي، الذي برهن، على الدوام، قدرته على حرف أي إصلاح عن مساره. لم تستطع رئاسة الوزارة، ولا الحاضنة السياسية التي تقف وراءها، بما في ذلك لجان المقاومة، من صد تلك الحملة الشرسة التي استهدفت إصلاح النظام التعليمي. ولم يجد السيد رئيس الوزراء بدا من الانحناء لتلك العاصفة. فجلس مع شيوخ دين ووعاظ ورموز للطوائف الدينية، ليُملوا على حكومة الثورة رؤيتهم للمناهج، منادين إبعاد من أتت بهم الثورة لتولي قضية الإصلاح التعليمي، مبقين على ما صنعته الانقاذ بالمناهج. هذا الذي جرى هو ما سيظل يحدث للقوى الحديثة في ظل فقدانها لفكر ديني مستنير، يسندها في معركتها مع قوى الإسلام السياسي.
المصالحة معرفية توعوية
قوى الإسلام السياسي، قوى عريضة، وهي لا تنحصر فقط وسط من نسميهم “الإسلامويين”. هناك قوى اخترقها “الإسلامويون”، منذ مؤامرة الدستور الإسلامي، في الستينات. فالمسمى الأول الذي نحته الدكتور حسن الترابي، كان مسمى: “جبهة الميثاق الإسلامي”. وقد كان نقطة البداية في إنشاء تحالف سياسي عريض يستند إلى فكر الإخوان المسلمين، وتصورهم للدولة. وقد نجح به في جر الطوائف وبعض رجال الطرق الصوفية وغيرهم، إلى صفه. وتجدد الاسم عقب ثورة أبريل 1985، وبرز اسم “الجبهة القومية الإسلامية” الذي استقطب كل تلك القوى تحت تصور فكر الإخوان المسلمين للدولة. نجح الإخوان المسلمون في السودان عبر هذه التسميات الفضفاضة في جر الكثيرين إلى دائرتهم، واستخدموهم لإنجاز أهدافهم. كما نجحوا، من الناحية الأخرى، في استخدام الخطاب الديني الغوغائي، الملتهب، لإرباك المثقفين العلمانيين، الذين أهملوا المعرفة بالدين، وتعالوا عليها، بجهالة تنم عن ضحالة، فأصبحوا بلا سلاح في معركة التغيير في بلد تعيش أغلبيته في بوتقة الدين. يستطيع، الآن، أي شيخ دين لا يملك من المعرفة سوى نصوص محفوظة، إضافةً إلى حنجرة جعجاعة، أن يربك أي مثقف علماني، مهما اتسع علمه وعَمُقت ثقافته، بل وجعله يرتجف، وهو يرسل الاعتذارات سيلا مدرارا. ما يجهله هؤلاء المثقفون الذين أخلوا ساحة الدين للجهلاء والمغرضين، أن تجديد الخطاب الديني، في المجتمعات الإسلامية، يمثل موقعا مركزيا في قضية التغيير. ولعل بعض شباب “الإسلاميين” أدركوا هذه الحقيقية، التي غابت على غالبية المثقفين العلمانيين، وعلى كثير من قطاعات الشباب التي ظنت أن الزمن وحده كفيلٌ بالقضاء على الأفكار الدينية، السلفية، المتخلفة.
هناك علة في الوعي الديني، لم نبرأ منها منذ دخول الخديوية الى السودان في عام 1821م وإنشائها المؤسسة الدينية الرسمية، التي أصبحت ذراعا للحاكم؛ وعملت، بحكم وظيفتها، على ترسيخ الاستبداد، وإشاعة ثقافة طاعة الحاكم، وعدم الخروج عليه. فعلى هذا الأديم الفقهي، الخديوي، العثماني، وجد الفكر الإخواني التربة الصالحة ليفرهد، جاعلا من المؤسسة الدينية الرسمية ذراعا له. بل تمدد الفكر الإخواني والفعل السياسي الإخواني فاحتوى العديد من الطرق الصوفية، وجعلها، عبر العطايا والمنح، ضمن المغردين في سربه. فكر الاخوان المسلمين، في السودان، وفي غير السودان، هو إلى حد كبير هو ما يعتنقه عوام المسلمين، وإن لم ينتموا لجماعة الإسلام السياسي. وهو بهذه الصفة المتغلغلة وسط عامة الناس، لن يُهزم الا عبر التفاكر والحوار.
تجارب تونس ومصر والجزائر
يكفي أن نذكر هنا، أن تونس التي مارست العلمانية لعقود، منذ عهد الحبيب بورقيبة، وقامت فيها أولى الثورات العربية فيما يسمى “الربيع العربي، أوصلت الديمقراطية الوليدة فيها حزب “الإسلاميين”، المسمى “حزب النهضة”، بقيادة راشد الغنوشي إلى البرلمان، بأكبر كتلة نواب منتخبة، نالها حزب واحد. ولا ينبغي أن ننسى أن الثورة المصرية التي تلت الثورة التونسية مباشرة، أوصل فيها صندوق الاقتراع الإخوان المسلمين، إلى كرسي الحكم. وقد قادت هذه الصدمة المفجعة علمانيِّي مصر إلى الخروج إلى الشوارع، ومنح الفريق عبد الفتاح السيسي تفويضا ليقوم بانقلاب عسكري جديد، بناء على طلبه، الذي أعلنه. وهكذا، كأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا، في أمر الثورة، والتحول الديموقراطي. ولربما واجهت الثورة التونسية ذات المصير المصري، بعد الاضطرابات الأخيرة، التي أعقبت تكشير الإخوان المسلمين عن أنيابهم، وإظهارهم نواياهم الحقيقية، وقلبهم ظهر المجن للمجتمع التونسي المستنير، بعد أن خدَّروه، وخدَّرونا معهم، بمعسول الحديث، عن فصل الدَّعَوِي عن السياسي، وعن تحولهم نحو الإيمان بالديموقراطية. كما لا ينبغي أن ننسى أيضا تجربة فوز الإسلاميين في انتخابات الجزائر التي جرى تقويضها بانقلاب عسكري في عام 1992، أدى إلى عنف مضاد بالغ الفظاعة، استغرق عقدا كاملا من الزمان. ولا تزال قضية التحول الديموقراطي في الجزائر، تراوح مكانها منذ ذلك التاريخ، وإلى اليوم. أيضا، سوف تغادر جيوش الولايات المتحدة أفغانستان، في نهاية أغسطس المقبل بعد عقدين من الزمان، وستكون الحكومة الأفغانية تحت رحمة طالبان، التي تحتل، حاليا، معظم أراضي البلاد.
مرة أخرى، لا بد من مصالحة مع الإسلاميين. لكن، ليس لإعفاء من أجرموا منهم، أو من سرقوا المال العام، أو استغلوا النفوذ، من المساءلة القانونية. وكذلك، ليس من أجل إدخالهم في “مولد” المحاصصات القائم، واقتسام السلطة مع بقية القوى السياسية أثناء الفترة الانتقالية. وإنما المقصود هو الاعتراف بهم كفكر، مهما كان رأينا في زيغه وزيفه، وككيان قائم فعلا، وكتيار له تأثير كبير على قطاع عريض من الجماهير، خاصة جمهور المساجد، وكثير من القيادات الصوفية. والهدف من المصالحة والاعتراف بتجذر المفاهيم الدينية الخاطئة التي يروج لها الإسلامويون، بطرق مختلفة، في الوعي المجتمعي، هو تأسيس منصة جديدة، موسعة، يجري فيها حوار تجديد الخطاب الديني، الذي انصرفت عنه القوى السياسية. وهو ما أهملته النخب العلمانية، وظل شبحه يطاردها وسيظل يطاردها، ولن تستطيع له ردا، وهي بحالتها هذه.
(يتواصل).