المصالحة” بين ما أعني وتخرُّصات المرجفين (5 – 7)

0 65

كتب: د. النور حمد

.

ضرورة التجديد الديني

ربما لا يعرف كثيرون أن عددا من الدولة العربية تعاقب قوانينها على الردة، ومن بين هذه الدول السعودية، واليمن، والسودان، وقطر، وموريتانيا، والمغرب. بل إن جامعة الدول العربية تبنت قتل المرتد بإجماع وزراء العدل العرب. جرى ذلك حين عُرض عليهم في عام 1996، ما سُمِّي، “القانون الجزائي العربي الموحد”. تقرأ المادة 162 من هذا القانون: “المرتد هو المسلم الراجع عن دين الإسلام، ذكرا كان أم أنثي، بقول صريح أو فعل قاطع الدلالة، أو سبَّ الله أو رسله، أو الدين الإسلامي، أو حرف القرآن عن قصد”. وتقرأ المادة 163: “يعاقب المرتد بالإعدام إذا ثبت تعمده وأصر بعد استتابته وإمهاله ثلاثة أيام”. وتقرأ المادة 164: “تتحقق توبة المرتد بالعدول عما كفر به ولا تقبل توبة من تكررت ردته أكثر من مرتين”. وتقرأ المادة 165: “تعتبر جميع تصرفات المرتد بعد ردته باطلة بطلانا مطلقا، وتؤول الأموال التي كسبها من هذه التصرفات لخزينة الدولة”.

لا أجد أدل على سيطرة العقل الفقهي السلفي على كامل المنطقة العربية، من صياغة جامعة الدول العربية لهذا القانون، وقبول وزراء العدل العرب به. المدهش، أن المثقفين العلمانيين يظنون، أن البلدان العربية والإسلامية، يمكن أن تنجز التحول الديموقراطي، دون الخوض في قضايا الإصلاح الديني، في حين يستطيع رجال الدين حمل الجامعة العربية على حشر مثل هذه المواد القروسطية، التي تنسف الديموقراطية من أصلها. يظن المثقفون العلمانيون العرب أن الزمن وحده كفيل بإحداث التغيير، ولا يلقون بالا إلى التراجع المضطرد للحياة الاجتماعية العربية إلى قماقم السلفية. يجري الارتداد إلى أحضان السلفية، وسط القطاع الأكبر، الذي تمثله الطبقات الفقيرة الموبوءة بيئاتها بانتشار الأمية وضعف التعليم، وسيطرة كثير من المُتَّجِرين بالدين، على أمر المساجد.

رغم وجود مواد للردة عن الإسلام في القانون الجزائي الموحد، لجامعة الدول العربية، ووجود قانون للردة في عدد من الأقطار العربية، إلا أن السودان تميز بأنه القطر العربي الوحيد، الذي أعلن عن تطبيقٍ لحد الردة، وقام بتنفيذه في العلن، في حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، في 18 يناير عام 1985. ويعني هذا، فيما أرى، أننا أكثر حاجة من غيرنا، للانخراط في جدل التجديد والإصلاح الديني. فحين تضع الدول العربية الأخرى، قانون الردة بغرض الردع الاستباقي للمثقفين وتخويفهم، ودفعهم لممارسة الرقابة الذاتية على تفكيرهم، وعلى التعبير عن أفكارهم، نجد أن الأمر في السودان، وصل حد تنفيذ القتل بسبب الرأي. وهو ما يدل على أننا نمثُّل، حالة خاصة من التخلف، في المفاهيم الدينية.

إدراج قانون للردة في القوانين الجزائية يعني مصادرة حرية الفكر، جملة وتفصيلا. ولهذه المصادرة آثارها السالبة الممتدة في حقل البحث العلمي، وفي فلسفة التعليم ومناهجه، وفي الإنتاج الفلسفي، وفي حرية التعبير؛ سواء في الانتاج الأدبي من قصة وشعر ونثر، أو في الإنتاج الفني من تشكيل، ودراما، وسينما، وموسيقى، وغيرها. وما من شك، أن مثل هذا الخنق يقود القوى الحية في المجتمعات العربية والإسلامية إلى الشلل الكامل. فيتوقف التفكير الإبداعي في كل صورة، ويتحول البشر إلى قطعان تقودها الأنظمة الاستبدادية، ورجال الدين بالخطاب الديني المتخلف. وهكذا، تبقى الحياة في كل هذا النطاق منقطعة عن نبض العصر ومتخلفة وراءه؛ تسير وهي تتعثر، كل لحظة وأخرى. فتزداد المسافة بينها وبين بقية العالم، وتتضاءل بينها وبينه فرص اللحاق. فقط، دعونا نلقي نظرة على المؤشرات الدولية للنمو، في مختلف المجالات، وانظروا إلى وضع الدول العربية والإسلامية في هذه المؤشرات. هذا التكلس في المفاهيم الدينية هو الذي حال، وسيحول، بين الدول العربية والإسلامية والإمساك بعروتي الحداثة والتقدم.

 

حالة خاصة في التخلف

يمثل السودان، في تقديري، حالة خاصة في التخلف، فيما يتعلق بانتشار المفاهيم الدينية الشكلانية الضحلة، وكذلك المفاهيم الخرافية، وسط الجمهور، ولعله قد فاق السعودية، في ذلك. لقد أنفق الانقاذيون عبر الثلاثين عاما الماضية، جهدًا بالغ الضخامة، في نشر المفاهيم الدينية المتخلفة، وسط عامة الناس. فقد عملوا بتركيز شديد على تحويل الجمهور العريض، عبر الإذاعات ومحطات التلفزيون، ومنابر المساجد في الأحياء، وتوليهم مهمة الخطابة والإمامة فيها، إلى جمهور يجعل الفقه المدرسي الحشوي مقياسا لكل شيء. صمموا المناهج الدراسية لتخدم نفس الغرض، ونشروا الهوس الديني عبر الجمعيات المنتشرة في الأحياء، ليحكموا سيطرتهم على عقول الأفراد في كل مكان. وقد كانت خلاصة ذلك، خلق جمهور عريض جدا، خاضع عقليا للخطاب الديني السلفي. والنتيجة هي الاستكانة التامة، للاستبداد الملتحف قداسة الدين. كما ساعد اغتراب السودانيين، من أجل العمل، في دول الخليج، خاصة، في المملكة العربية السعودية، عبر الثلاثين عاما الماضية، في زيادة شيوع المفاهيم الدينية المتخلفة في السودان. وتنطبق حالة التأثير السالب للاغتراب في السعودية على المغتربين، على بلدان عربية أخرى، على رأسها مصر.

من يراقب وسائل التواصل الاجتماعي، ويرصد شراسة الهجوم على النساء، والتنمر عليهن، وصب الجهلاء الموتورون سخائم نفوسهم فوق رؤوسهن، استنادا على فهم ضحل للدين، يدرك ضخامة الردة السلفية التي أصابت المجتمع السوداني. هذا المجتمع الوارث للروحانية الكوشية ولمجمل التراث الإبراهيمي، الذي اندغمت روحانيته المتراكمة في بوتقة التصوف، في القرن السادس عشر، لم يكن، قط، بهذه الصورة التي بدأت تتشكل في العقود الثلاثة، أو الأربعة الأخيرة. لم يكن هذا المجتمع على اختلاف مكوناته العديدة، يعرف هذه النظرة البدوية، السلفية، للسيطرة على النساء، وإخضاعهن لسلطة الرجال، وإن كانوا جهلاء، أميين لا يفكون الحرف.

ما أود التنبيه له هنا، هو ضرورة ألا ينخدع المستنيرون باقتلاع ثورة ديسمبر الشعبية نظام الإسلامويين. فالثورة أزاحت قمة جبل الجليد، فقط، أما كتلة الجليد الضخمة فإنها لا تزال غاطسة تحت الماء. فقط، لاحظوا كما سبق أن أشرت، أن ثورة تونس جاءت إلى البرلمان التونسي، في نهاية الأمر، بالإسلامويين. وقد حدث ذلك عبر صندوق الاقتراع، في انتخابات نزيهة. ويعني هذا أن سواد الجمهور التونسي جمهور إسلاموي. وقد أتت ثورة مصر، عبر صندوق الاقتراع بالإسلامويين إلى الحكم، أيضا. وغالبا، هذا هو ما سوف يحدث في السودان، عقب الفترة الانتقالية، إذا سارت الأمور وفق ما يجري حاليا من قِبَل هذه الناشطية السياسوية، التي تدير المشهد الراهن، بهذا الافتقار الشديد للأفق المعرفي، وللحنكة السياسية، ولأدوات التحليل المحايد لمكونات الواقع المجتمعي والسياسي القائم. الذي سيحدث، في تقديري، عقب الفترة الانتقالية، هو تشكُّل تحالف إسلاموي، مصلحي، كليبتوقراطي، عريض، لخوض الانتخابات. ووسيجري الدفع بشباب الثورة، وطيف اليسار، إلى هامشٍ قصي. وستصبح الثورة مجرد ذكرى لذيذة.

 

صحوة دينية عربية استنارية

انخرط المثقفون في كثير من البلدان العربية؛ خاصة في المغرب، وفي تونس، وفي مصر، في مضمار تجديد الخطاب الديني. يشهد على ذلك، ما يجري رفعه من مواد تتعلق بهذا الموضوع على قنوات يوتيوب، في ظاهرة لا تنفك تتزايد باضطراد. يعكس هذا النشاط الجم، الملحاح، مقاربات مختلفة لتجديد الخطاب الديني، ومقاربات أخرى لنقد الدين من أصله، وبجرأة غير مسبوقة. ومن المهم أن أقول هنا، إن الخطاب الديني القاصد نحو الإصلاح، لن يقوى، ولن ينعجم عوده، ما لم ينخرط في تمارين فكرية معمقة مع نُقَّاد الدين، من حيث هو، من جهة، ومع مقاومي الإصلاح الديني، من الجهة الأخرى. لكن، في جو الإرهاب الفكري، ومواد الردة المدسوسة في قوانين الدول العربية، يصبح هذا الاشتباك المعرفي، الضروري، متعذرا، بسبب الخوف على الحياة. وهذا هو ما دفع بكثيرين ممن انخرطوا في نقد الدين، إلى اختيار مخابئ لأنفسهم في الدول الغربية، حيث حرية التفكير والتعبير عن الأفكار، متاحة.

لكن، يمكن القول، أيضا، إنه رغم وجود قوانين الردة في الدول العربية، ووجود محترفي إصدار الفتاوى بالتكفير، فإن المناخ العام في بلدان مثال مصر وتونس والمغرب، على سبيل المثال، أصبح أفضل من ذي قبل، في مناقشة قضايا الدين. ولا ينحصر هذا النشاط وسط دعوات تجديد الخطاب الديني، وإنما يشمل أيضا ناقدي الدين، من أساسه. ومن بين ناقدي الدين من أصله، متفلسفون ناضجون عميقون، ومن بينهم، أيضا، أعدادٌ كبيرةٌ من العجلين الضحلين، المتنطعين، قليلي المعرفة. لكن لابد لكل حراك مبتدئ في دروب الاستنارة، أيا كانت صورته، أن تكتنفه في مبتدئه الفجاجة، بل والغثاثة.

ما يحزن أن السودان رغما عن ريادته حركة التجديد، منذ خمسينات القرن الماضي، على يد الأستاذ محمود محمد طه، إلا أنه، حاليا، بعيد جدا من مثل هذه النقاشات الحيوية، حول الدين، التي نشهدها في قنوات يوتيوب وغيرها، في عديد البلدان العربية. لقد حدث تأخير لعقارب ساعة التجديد الديني، في السودان، بفعل فاعل. هذا الفاعل هو الإسلام السياسي الذي أمسك بالسلطة، وملأ الفضاء الإعلامي بجيش من الجاهلين بروح الدين، وبالتاريخ، وبالعلوم الطبيعية، والإنسانية. ولسوف لن يذهب تأثير هؤلاء بفعل الزمن، وحده. لا يمكن أن يحدث استقرار في البلد ما لم ينخرط المثقفون في حوار عريض حول قضايا الإصلاح الديني، مع من يسمون “رجال الدين”، ومع الطيف العريض لقوى الإسلام السياسي، وزعامات الطوائف، ومشايخ الطرق الصوفية. ضامن الاستقرار الوحيد، هو أن نتوافى جميعا على المفاهيم التي عليها تقام دولة التعدد والتنوع.

(يتواصل).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.