انتفاضة الملاعب

0 88
.

وفقاً لأحدث الإحصاءات المنشورة، فإن نحو 4 مليارات و200 مليون إنسان يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، أي أكثر من نصف البشرية. هذه الوسائط باتت تلعب دوراً كبيراً في مختلف مفاصل حياتنا، وتؤثر بشكل مباشر حتى في سلوكياتنا. ومع تعاظم دورها وقوة تأثيرها، يتزايد النقاش حول كيفية ضبط بعض المظاهر السالبة المصاحبة لها، ولجم الممارسات المنفلتة، والدور الذي يمكن أن تقوم به الحكومات والشركات المالكة لهذه الوسائط.

خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي سلطت الأضواء في بريطانيا على حملة شارك فيها الرياضيون وبعض وسائل الإعلام والصحافيين بدعوة من منظمات كرة القدم الإنجليزية لمقاطعة وسائل التواصل الاجتماعي 4 أيام من يوم الجمعة الماضي حتى مساء الاثنين، احتجاجاً على العنصرية في الملاعب، وللضغط على شركات وسائل التواصل لبذل مزيد من الجهد للقضاء على الكراهية عبر الإنترنت.

هيئات رياضية أخرى دعمت حملة المقاطعة بما في ذلك الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ورابطة لاعبي الكريكيت المحترفين، ودوري فرق الرغبي، ودوري السيدات. وشجع اتحاد اللاعبين أعضاءه على المشاركة للتعبير عن الغضب الواسع من حملات الشتائم والإساءات العنصرية التي يتعرض لها الرياضيون في الملاعب وفي وسائل التواصل الاجتماعي.

وكان الرياضيون قد نظموا حملة مماثلة في أبريل (نيسان) 2019 تحت شعار «كفى» الذي وضعوه على صفحاتهم وحساباتهم في «تويتر» و«فيسبوك» و«إنستغرام» وغيرها من وسائل التواصل التي قاطعوها أيضاً لمدة 24 ساعة. واختير شعار الحملة «كفى» بعدما تزايدت الحالات التي يتعرض فيها لاعبون من جذور عرقية غير إنجليزية وعلى وجه الخصوص اللاعبون ذوو البشرة الداكنة، إلى إساءات عنصرية سواء في ملاعب كرة القدم أو في مواقع التواصل الاجتماعي.

يومها أطلق داني روز مدافع فريق توتنهام جملته الشهيرة «أتلهف إلى اليوم الذي أدير فيه ظهري لكرة القدم»، تعبيراً عن الإحساس بالغضب والمهانة إزاء الشتائم والسباب من بعض المشجعين خلال المباريات أو على مواقع التواصل الاجتماعي.
نادي مانشستر يونايتد أعلن الأسبوع الماضي أنه بعد تحليلاته الخاصة التي أجراها، وجد زيادة بنسبة 350 في المائة في التحرشات والإساءات الموجهة للاعبي النادي، ورصد 3300 تدوينة على مواقع التواصل تستهدف لاعبيه خلال الفترة من سبتمبر (أيلول) 2019 إلى فبراير (شباط) 2021.

الظاهرة أوسع من كرة القدم وتتعلق بمختلف مناحي الحياة وتحدث في مختلف المواقع من المدارس، إلى دواوين العمل. وهي تشمل التحرش ونشر المواد التحريضية، بث الكراهية، نقل الأخبار المفبركة والشائعات والأكاذيب، التهديد بالعنف، الابتزاز والتحرش الجنسي، انتحال الشخصية، قرصنة الحسابات، سرقة البيانات والمعلومات الشخصية، وغيرها من أساليب استهداف الأشخاص. كما أنها قد تحدث عبر مختلف الوسائل من وسائل التواصل الاجتماعي إلى الرسائل النصية عبر الهواتف أو البريد الإلكتروني حتى في غرف ومجموعات ألعاب الفيديو في الإنترنت.

المتضررون من هذه الظواهر يعانون نفسياً واجتماعياً والنتائج قد تكون مرعبة أحياناً. مقدمة البرامج في التلفزيون البريطاني كارولاين فلاك (40 عاماً) انتحرت في فبراير 2020 بعد حملة شائعات وأقاويل وانتقادات واجهتها على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. كذلك كشفت لاعبة منتخب إنجلترا السابقة لكرة القدم للنساء كارين كارني هذا الأسبوع أنها فكرت في الانتحار بعد حملة ضارية من الهجوم الشخصي الذي تعرضت له من بعض مشجعي فريق ليدز لكرة القدم إثر تعليقات لها لم ترُق لهم خلال مشاركتها في برنامج رياضي حيث تعمل معلقة.

هذه التأثيرات السلبية تظهر على مختلف الفئات العمرية، لكنها تكون أشد على صغار السن والمراهقين وفقاً للخبراء. فقد أشارت الأبحاث إلى أن 26 في المائة من صغار السن فكروا في الانتحار بسبب المضايقات والتحرشات في الفضاء الإنترنتي، بينما قال 37 في المائة إنهم عانوا من نوبات إحباط. وهناك حالات انتحار كثيرة حدثت بالفعل بين مراهقين بسبب هذه الضغوط. فالمراهقون وطلاب المدارس يكونون في العادة الأكثر عرضة للتحرش والمضايقات في الفضاء الإنترنتي. وأورد موقع رصد البحث الإنترنتي أن 73 في المائة من الطلاب والطالبات في بريطانيا يشعرون أنهم تعرضوا لمثل هذه المضايقات والملاحقات في فترة ما.

المشكلة أيضاً تفاقمت خلال فترة الإغلاق والقيود الاجتماعية بسبب الكورونا، فقد أشار استطلاع للرأي إلى أن نصف عدد النساء المشاركات تعرضن لشكل من أشكال التحرش والإساءة في وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة من مارس (آذار) 2020 حتى بداية العام الحالي. وفي أميركا قال 40 في المائة من الرجال والنساء المشاركين في استطلاع لمركز «بيو» إنهم تعرضوا لنوع من أنواع التحرش والمضايقات على الإنترنت. معظم هذه التحرشات تحدث بسبب الشكل (61 في المائة)، أو العرق واللون (17 في المائة)، أو الدين (11 في المائة).

مواجهة التفلتات في وسائل التواصل الاجتماعي تحتاج إلى قوانين تجرمها، ومحاكم لا تتهاون فيها، وفوق كل ذلك تحتاج إلى خطوات من الشركات المالكة لهذه الوسائط. فهذه الشركات التي تجني أرباحاً طائلة من الإعلانات ومن ارتفاع قيمة أسهمها، عليها أن تتحمل مسؤولياتها، وتقوم بواجبها إزاء المجتمع واجتثاث الظواهر السالبة التي تنشر عبر مواقعها. فكثيراً ما يشكو المتضررون من أن المواد التي يبلغون عنها لا تتم إزالتها من المواقع إلا بعد مرور وقت طويل، وأحياناً لا تزال، وذلك على الرغم من أن هذه الشركات تعلن دائماً أن سياساتها تمنع نشر الكراهية والتحريض على العنف.

في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أجرى اتحاد لاعبي كرة القدم المحترفين في إنجلترا وويلز تحقيقاً بشأن 56 تغريدة مسيئة على «تويتر» وقام بإبلاغ الشركة عنها، لكن 31 من هذه التغريدات ما تزال موجودة بعد مرور 6 أشهر. وقال اتحاد اللاعبين إن هذا الأمر «غير مقبول على الإطلاق»، مطالباً شركات منصات التواصل القيام بتحرك جاد في هذا الصدد.

وكانت «تويتر» أعلنت في بيان في فبراير الماضي أنها أزالت أكثر من 7000 تغريدة متعلقة بكرة القدم في بريطانيا رأت أنها غير ملائمة وتنتهك قواعدها.

هناك من يقول إن إزالة المواد لا يجدي لأن الأشخاص الذين يبثونها سينشرون غيرها، وإذا أغلقت حساباتهم سوف ينشؤون غيرها. هذا الكلام غير مقنع بل تبرير لتقاعس الشركات عن تحمل مسؤولياتها. فإزالة المواد تعني وقف تداولها وبالتالي الحد من انتشارها، أما إغلاق حسابات المتورطين فيمكن أن يصبح خطوة لمنع هؤلاء الأشخاص من فتح حسابات أخرى. فالشركات يمكنها لو أرادت أن تشترط على كل من ينشئ حساباً أن يدخل ضمن بيانات التسجيل ما يثبت هويته مثل صورة لرخصة القيادة أو الهوية، وبذلك يسهل تعقبه ومحاسبته إذا ارتكب فعلاً مخالفاً للقانون مثل بث الكراهية والتحريض والتهديد والتحرش وخلافه.
وكانت الحكومة البريطانية قد لوحت بفرض «غرامات كبيرة» قد تصل إلى مليارات الدولارات على الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي إذا فشلت في معالجة التجاوزات على منصاتها. لكن هناك من يرى أن الحكومة لا تتعجل الدخول في مواجهة مع عمالقة شركات التكنولوجيا، ولا سيما أن هناك تياراً عريضاً من الليبراليين يحذر من اتخاذ خطوات أو إصدار تشريعات تفرض قيوداً تؤدي إلى لجم الحريات في الفضاء الإنترنتي. مع الإقرار بأهمية الحريات التي وفرتها الإنترنت، والفوائد الكثيرة لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذا لا يعني عدم القيام بخطوات لمواجهة المظاهر السالبة المتفشية؛ فالذين يقومون بممارسات منحرفة قد يكونون قلة، لكن وسائل التواصل الاجتماعي منحتهم منصات لنشر سمومهم على نطاق واسع وبسهولة شديدة، وهنا الخطورة، إذ إن اتساع رقعة الانتشار يعني زيادة تأثير المنشور. هؤلاء لا بد أن يعرفوا أن أفعالهم لها عواقب وأنهم سيحاسبون. فهناك بيوت دمرت، وشباب دفعوا إلى الانتحار بسبب عمليات التحرش والتنمر الإلكتروني ونشر الشائعات الكاذبة.
ما قام به الرياضيون ومناصروهم قبل أيام لا يمكن أن يدفع وحده الشركات إلى تغيير جذري في قواعد عملها، لكنه يمكن أن يكون بداية لحملات أوسع تشارك فيها جهات مختلفة للضغط على الشركات والحكومات لتبني قوانين وإجراءات لمواجهة التفلتات في وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت جزءاً أساسياً من حياتنا ولا يمكن تركها من دون ضوابط تحكمها وتمنع استغلالها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.