بول كوفي: وإعادة توطين الأمريكيين السود الأحرار في إفريقيا

0 151

كتب: ناصر كرم رمضان

.

“بول كوفي” Paul Cuffe (1759-1817م)، عمل على تأسيس “قومية إفريقية” بين السود داخل أمريكا؛ لكي يتمكنوا من المشاركة في تحرير إخوانهم المستعبَدين من خلال التجارة وتقرير المصير، فدعا إلى تدعيم هذه القومية من خلال هجرة السود، وبناء دولتهم القومية داخل إفريقيا؛ حيث كانت “سيراليون” هي المكان المستهدَف، والتي كان يأمل -من خلال تحرُّرها من التبعيَّة الاستعماريَّة- أن تُصْبِحَ كيانًا سياسيًّا مستقلاً يستوطنه السود الأحرار، والذي سيكون بمثابة قاعدة للتجارة والملاحة والصناعة، هذه القاعدة التي يمكن من خلالها دَحْض التأكيدات القائلة بأنَّ “الأشخاص الملونين غير قادرين على العمل بمفردهم، وتحقيق الإنجازات”.

أولاً: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:

وُلِدَ “بول كوفي” Paul Cuffe في 17 يناير 1759م، على جزيرة “كوتي هانك” Cuttyhunk، بولاية “ماساتشوستس” Massachusetts بالولايات المتحدة، وتُوفِّي في 7 سبتمبر من عام 1817م، في “ويتسبورت” Westport بولاية “ماساتشوستس”.

كان واحدًا من بين عشرة أطفال لوالده “سلوكوم كوفي” Slocum Cuffe، وهو عبدٌ حصَل على حريته في عام 1745م، ووالدته هي “روث موسى” Ruth Moses، وهي أمريكية أصلية Native American من قبيلة “وامبانواج” Wampanoag. وكان والده نجارًا ماهرًا، قام على رعاية أسرته في مزرعة في “دارتموث” Dartmouth بولاية “ماساتشوستس”.

وبعد وفاة والده عام 1772م، اتخذ “بول” الاسم الأول لوالده كلقب له. وعند بلوغه سنّ الرشد وأثناء الثورة الأمريكية عمل بحَّارًا على سفينة خاصة، وشارك في إدارة الإمدادات الأمريكية خلال الحصار البريطاني. وفي عام 1783م تزوج من امرأة أمريكية أصلية تُدْعَى “أليس بيكيت” Alice Pequit وأنجب الزوجان في النهاية سبعة أطفال.

بعد نهاية الحرب، افتتح “كوفي” وصهره “ميشيل وينير” Michael Wainer، حوضًا لبناء السفن، إلى أن أصبحا يمتلكان ثلاث سفن صغيرة. ليقوم “كوفي” في وقت لاحق ببناء عدد من السفن الكبيرة؛ هذه السفن التي كانت تقوم برحلات طويلة من أجل صيد الحيتان، وأحيانًا تخرج في رحلات تجارية إلى أوروبا، وأجزاء أخرى من الأميركتين. بالإضافة إلى مشاريعه البحرية، كان “كوفي” تاجرًا مزدهرًا، ومالكًا لطاحونة ومزرعة، ونتيجة لجهوده ربما كان أغنى أمريكي من أصل إفريقي في عصره.

وعلى الرغم من نجاحه المالي، كان “كوفي” مدركًا تمامًا لعدم المساواة والصعوبات التي يواجهها السود داخل الولايات المتحدة. وفي أواخر سبعينيات القرن الثامن عشر، رفض “كوفي” وشقيقه “جون” دَفْع الضرائب بحجة حرمانهم من حقّ التصويت، على الرغم من كونهم أحرارًا، ومن ثَمَّ دخلا كلاهما السجن لفترةٍ وجيزةٍ. وفي عام 1780م قدَّم “كوفي” والعديد من السود الأحرار التماسًا إلى محكمة “ماساتشوستس” العامة، مطالبين بإعفائهم من الضرائب؛ نظرًا لحرمانهم من مزايا الجنسية، فكانت النتيجة أن ولاية “ماساتشوستس” أقرَّت قانونًا يجعل من “جميع الأشخاص الملوّنين الأحرار خاضعين للضرائب، وذلك وفقًا للنسبة المحددة للرجال البيض، ومنحهم الامتيازات الخاصة بالمواطنين الآخرين”.

في عام 1808م أصبح “كوفي” عضوًا في “جمعية الأصدقاء”Society of Friends ، والتي كانت تُعرَف باسم “الكويكرز” Quakers، وانضم إلى اجتماع الأصدقاء في “ويستبورت” Westport القريبة من “ماساتشوستس”؛ حيث اشترى مزرعة هناك. وعندما أولت الجمعية اهتمامًا بتوطين السود الأحرار في مستعمرة سيراليون البريطانية، أصبح “كوفي” مهتمًّا بهجرة العبيد المحرَّرين إلى إفريقيا. وهكذا شرع في جهود لإنشاء مستوطنات على الساحل الغربي لإفريقيا، وتطوير طُرُق التجارة هناك.

وفي عام 1811م أسَّس “جمعية أصدقاء سيراليون” Friendly Society of Sierra Leone أثناء وجوده في سيراليون، ثم أبحر إلى إنجلترا والتقى بأنصار إلغاء العبودية البريطانيين، وطلب منهم الدعم لخطط الهجرة والاستعمار في إفريقيا؛ وبالفعل حصل في النهاية على منحة أرض في إفريقيا.

وفي عام 1812م، عاد “كوفي” إلى الولايات المتحدة، وبمجرد وصوله تم مصادرة بضائعه بتهمة انتهاك قانون الحظر الصادر عام 1807م، والذي كان يفرض حظرًا على الواردات القادمة من بريطانيا العظمى. فسافر “كوفي” إلى “واشنطن” العاصمة؛ حيث التقى برئيس الولايات المتحدة “جيمس ماديسون” James Madison، الذي أمر بالإفراج عن شحنته.

واصل “كوفي” الدفاع عن خططه الاستعمارية، وحصل بالفعل على دعم عددٍ من القادة الأمريكيين السود. وفي ديسمبر 1815م أبحر “كوفي” وثمانية وثلاثون مستوطنًا أسود إلى سيراليون، ووصلوا في فبراير من عام 1816م. ومِن ثَمَّ عاد “كوفي” إلى الولايات المتحدة في وقتٍ لاحقٍ من ذلك العام، وسعى للحصول على دعم لرحلةٍ أخرى، لكن سرعان ما بدأت صحته في التدهور، وتُوفِّي في العام التالي، ليترك كتابًا وحيدًا بعنوان “مذكرات الكابتن بول كوفي” كتبه عام 1811م.

ثانيًا: السياق التاريخيّ والسياسيّ في القرن التاسع عشر

تبلورت رؤية تمدُّن إفريقيا وتحضّرها في أواخر القرن الثامن عشر متأثرةً بالحركة الإنجيلية الإنسانية البريطانية، التي وجَّهت كامل طاقتها ضد قضية الاستعباد وتجارة الرقيق، رافعة شعار “تمدُّن إفريقيا” من خلال التبشير بالمسيحية والتجارة على الساحل الغربي للقارة.

 وكانت “سيراليون” أول مظهر عمليّ لهذا التأثير في إفريقيا بداية من عام 1787م؛ فقد نظر المؤسّسون إلى “سراليون” بتفاؤل شديد؛ من حيث إنها ستكون منارةً للقارة، يشعّ منها نور المسيحية، وتكون قِبْلَة للتجارة في إفريقيا، وذلك من خلال وكلائهم من الزنوج الذين كانوا في طليعة المستعمرين الأوائل. فكان من بينهم في البدايات 377 من الزنوج البريطانيين، ثم أضيف إليهم 1131 مهاجرًا زنجيًّا في عام 1792م من نوفا سكوتيا Nova Scotia -إحدى المقاطعات الكندية التي تقع شرق اليابسة الأمريكية-، ثم 500 من المارون الجامايكيين Maroons from Jamaica -أحفاد الأفارقة الذين حاربوا وهربوا من العبودية  وأنشأوا مجتمعات حرَّة في المناطق الجبلية الداخلية من جامايكا في عهد العبودية- في عام 1800م.

وفي عام 1804م بدأت جمعية الكنيسة التبشيرية Church Missionary Society بالعمل في المستعمرة، وفي عام 1807م أصدرت بريطانيا مرسومًا يُحرّم تجارة الرقيق في كافة مستعمراتها، وفي 1 يناير 1808م كان يُفترض من شركة سيراليون السيطرة المباشرة على المستعمرة لاستخدامها كمركز لقمع تجارة الرقيق في غرب إفريقيا، وكذلك لاستقرار الأفارقة المحرَّرِينَ وتمدُّنهم؛ حيث إنه بحلول هذا الوقت كان قد وصل تعداد سكان سيراليون حوالي 2000 من الزنوج الغربيين، فقد أصبحت قِبْلَة لمزيد من الزنوج المهاجرين من العالم الجديد.

ثالثًا: إسهامات “بول كوفي” الفكرية

في عام 1808م كان “بول كوفي” أول زعيم أمريكي من أصل إفريقي يدافع عن فكرة “العودة إلى إفريقيا”؛ لذا فقد أولى اهتمامًا كبيرًا بالاستفسار عن “سيراليون”. وتأثر بفكرة “تمدُّن إفريقيا”، وكان من بين خططه “الترويج للهجرة الانتقائية للزنجي الأمريكي إلى سيراليون”، و”قمع تجارة الرقيق”؛ لذا قام بتدشين تجارة واسعة كان قوامها زنوج أمريكا وغرب إفريقيا؛ بهدف تعزيز ثروة ومكانة العِرْق، وقام بوضع برامج مكثَّفة لتعليم الزنوج كشرط لعودتهم إلى إفريقيا من أجل بناء دولة جديدة وحديثة ذات سيادة في إفريقيا، وقام برحلتين إلى سيراليون؛ الأولى في عام 1811م وكانت رحلة استكشافية، والثانية في عام 1815م وجلب معه أكثر من 38 زنجيًّا على نفقته الخاصة.

كانت لرحلات “كوفي” نتائج مهمة: فقد أثبتت جدوى “إعادة توطين الزنوج الأحرار الأمريكيين في إفريقيا”، وطرح “فكرة العودة إلى إفريقيا، والتي وجدت صدًى داخل أمريكا، بين العاملين في المجال الإنساني وأصحاب العبيد”؛ حيث إن العاملين في المجال الإنساني كانوا يرون أن مثل هذا المشروع من شأنه أن يمنح الزنوج الأمريكيين الحرية الحقيقية، بالإضافة إلى أنهم سيصبحون وكلاء لإفريقيا من أجل تمدُّنها، وعلى التوازي كان أصحاب العبيد يريدون التخلُّص من الزنوج الأحرار؛ لما قد يُشكلونه من تهديد على مؤسسة العبودية داخل أمريكا. هذان العنصران مجتمعَيْنِ تسبَّبَا في وَضْع حجر الأساس للجمعية الأمريكية للاستعمار في عام 1817م، والتي تكللت جهودها بتأسيس دولة ليبيريا عام 1822م.

ليقرر كوفي أن تكون رحلته الثالثة لصالح الجمعية وتحت قيادتها، ولكنه تُوفِّي قبل مغادرة الرحلة التي كانت تحت مظلة الجمعية، وقبل وفاته بفترة قصيرة، حذَّر الزنوج الأمريكيين من الانخراط في التعاون مع الجمعية، فقد كان يعكس مشاعر الارتياب التي كانت تسيطر على غالبية الزنوج الأمريكيين تجاه الجمعية؛ فقد كانوا ينظرون إلى الجمعية بوصفها مجرد أداة لأصحاب العبيد.

ومن أبرز إسهامات “بول كوفي” الفكرية ما يلي:

1- العودة إلى إفريقيا

بدأ الكابتن “بول كوفي” توجيه بصره إلى “إفريقيا باعتبارها موطنًا محتملاً للأمريكيين السود الأحرار في وقت مبكر من عام 1808م؛ فقد كانت جهوده تُضاف إلى جهود سابقيه من المناضلين السود الذين طالبوا بالهجرة ودافعوا عنها، وذلك قبل عقدين تقريبًا من رحلته الأولى إلى إفريقيا. فوفقًا لـ”فوربس “Ella Forbes” كان هناك جهود لبعض السود الذين دافعوا عن الهجرة إلى إفريقيا في وقت مبكر من عام 1787م؛ عندما قام ثمانون سجينًا بتقديم التماسٍ إلى حكومة ولاية “ماساتشوستس”؛ لمساعدتهم في الوصول إلى إفريقيا، لكن تم رفض طلبهم”.

في عام 1813م التمس “كوفي” من الكونجرس السماح له بالتجارة مع “سيراليون”، والتي كانت متوقفة بسبب الحرب مع إنجلترا، وبرر ذلك “بأنه إفريقي مُحَاط بالعناية الإلهية Providence والثروة، وأنه يُثمّن جهود الولايات المتحدة وبريطانيا من أجل إنهاء العبودية الإفريقية، لذا كان يريد أن يقوم بدوره في مساعدة الأفارقة”.

وبمجرد انتهاء الحرب وعودة التجارة مع البريطانيين، أبحر “كوفي” إلى “سيراليون” مع ثمانية وثلاثين مهاجرًا، بينهم عشرون طفلاً”، ووصل في فبراير من عام 1816م وبقي هناك لمدة شهرين. وأثناء وجوده هناك حضر الاجتماعات، وزار الكنائس وتفحَّص البلاد بحثًا عن مواقع للمستعمرة التي تصوَّرها. وطالب “كوفي” في رسالته إلى الإنجليزي “وليم ألين” William Allen في أبريل 1816م بضرورة تطوير البنية التحتية للمنطقة؛ من خلال “فتح الطرق من أجل مزيد من التواصل بين الجماعات العرقية المختلفة، وإنشاء مصانع بموافقة السكان والقبائل هناك، وكان يرغب في صناعة إفريقية تنافس الصناعة الأوربية”، وهو ما يدلل على رؤية اقتصادية راديكالية، سعى من خلالها إلى “تصور اقتصاد إفريقي يعتمد على الاكتفاء الذاتي”.

وفي “سيراليون” شكَّل “كوفي” “جمعية أصدقاء سيراليون” Friendly Society of Sierra Leone التي تَرَأَّسَها إفريقي من العبيد السابقين يُدْعَى “جون كيزل” John Kizell، لتكون بمثابة قاعدة تجارية كبيرة. “كيزيل” الذي أصبح فيما بعد حلقة الوصل الرئيسية بين “مشروع ليبيريا” و”جمعية الاستعمار الأمريكية”. “جمعية أصدقاء سيراليون” هي مجموعة تعاونية سوداء تهدف إلى “تشجيع المستوطنين السود في سيراليون، والسكان الأصليين في إفريقيا عمومًا، على المشاريع الزراعية وتصدير الإنتاج إلى أوروبا”.

ويوضّح “ستيرلينج” Dorothy Sterling أن رحلة “كوفي” الناجحة إلى” سيراليون” أثارت خيال الأمريكيين البيض المؤثرين، والذين فضَّلوا انتقالاً جماعيًّا للسود الأحرار من الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان هناك تخوُّف من العبيد الأحرار في الداخل الأمريكي؛ نظرًا لكون بعضهم متعلِّمًا وناجحًا، وهو ما يُمثّل تهديدًا لنظام العبودية المعمول به في الولايات الأمريكية. لقد كان وجودهم يدحض الحجة القائلة بأن السود أقل شأنًا من البيض، هذه العنصرية العلمية كانت أحد المبررات المعيارية للعبودية.

“كوفي” كان متعلمًا، وناجحًا، ويتمتع بمهاراتٍ تجارية عالية، مما جعله هدفًا ثمينًا لجمعية الاستعمار الأمريكية؛ فقد كان مشروعه تكرارًا للبرنامج البريطاني الذي تجاهل السود ولم يمنحهم احترامًا، ولم يُرَاعِ همومهم ومصالحهم ورغباتهم.

تم التحقق من ذلك خلال الاجتماع الذي عُقد في واشنطن عام 1817م لتشكيل “الجمعية الأمريكية لاستعمار الأشخاص الأحرار الملونين” The American Society for the Colonizing of Free People of Color، والتي عُرفت على نطاق واسع باسم “جمعية الاستعمار الأمريكية” The American Colonization Society. هذا الاجتماع الذي تشكلت فيه الهيئة التأسيسية للجمعية من البيض فقط، والذين اجتمعوا من أجل تقرير مصير ومستقبل السود دون أيّ اعتبار لمشاعر السود أنفسهم بشأن هذه المسألة، وفيما بعد تم استدعاء “كوفي” من أجل المساعدة في تحقيق ذلك.

فبعد الإعلان عن اجتماعها التأسيسي وأهدافها في الصحافة الوطنية وحصولها على تأييد لمخططها الاستعماري من الهيئة التشريعية بولاية “فرجينيا”، قامت جمعية الاستعمار بالتحرك بسرعة إلى “ضمان الاعتماد الفيدرالي” لبرنامجها، فقدَّم “جون رونوك” John Roanoke العريضة إلى مجلس النواب في 14 يناير 1817م، ومِن ثَمَّ تم إرساله إلى لجنة تجارة الرقيق. وبعد شهر قدمت اللجنة تقريرًا رفضت من خلاله المخطَّط، واقترحت خطة بديلة للتعاون مع البريطانيين في سيراليون؛ فقد خلُص التقرير إلى أنه لم تكن هناك حاجة إلى إنشاء مستعمرة جديدة في إفريقيا في الوقت الحالي.

بينما ” كوفي” الذي زار العاصمة قبل بضع سنوات؛ قام بوضع خطته لهجرة السود واستعمارهم في إفريقيا، فقد كانت خطته رائدة بوصفه رجلاً إفريقيًّا، كما كان البناء على عمله سيوفر المال، ويمنع النزاعات والحروب ويفتح طرقًا للتجارة والتعاون بين البريطانيين والأمريكيين. وإدراكًا لتحفظات الكونجرس، ذهب مسؤولو جمعية الاستعمار إلى العمل على جمع “البيانات والحجج التي لم يستطع الكونجرس تجاهلها”.

لم يُفَوِّت “صمويل ميل” Samuel J. Mills و”روبرت فينلي” Robert Finley القائمان على تأسيس جمعية الاستعمار أيَّ وقتٍ بعد الاجتماع التأسيسي في الاتصال بـ”كوفي”؛ للحصول على نصيحته، فقد كتب “كوفي” إلى “ميلز” من “ويستبورت” Westport بـ”ماساتشوستس” Massachusetts في يناير 1817م مُعبِّرًا عن امتنانه وتقديره لصداقته، وأخبره أن “سيراليون مكانٌ مناسبٌ لإقامة مستوطنات صغيرة”. لكن “كوفي” اقترح “رأس الرجاء الصالح” في الجنوب الإفريقي بوصفه مكان أكثر ملائمة من غرب القارة، كما أوصى أيضًا بمنطقة “نهر الكونغو” بالقرب من خط الاستواء، والتي شعر بأن لديها عددًا كبيرًا من السكان وخصوبة أكبر في الأراضي. لكنَّه في النهاية أبدى استعداده لمشاركة جهوده مع الجمعية أيًّا كانت الوجهة، وأن تبنّيه لأيّ مشروع استيطانيّ كان بهدف هجرة الزنوج الأحرار.

“كوفي” أخبر “ميلز” أنه نتيجة لنقله تسع عائلات إلى سيراليون في عام 1815م، وأن هناك اهتمامًا كبيرًا بالهجرة من المجتمع الأسود داخل أمريكا، وأنه “في عام 1816م كان هناك عدد كبير جدًّا من طلبات الهجرة يفوق إمكانياته، وأنه تلقَّى أكثر من ألفي طلب للمساعدة على الهجرة.

وبعد يومين من ردّه على رسالة “ميلز”، كتب “كوفي إلى صديقه “جيمس فورتن” James Forten في فيلادلفيا؛ أبلغه باتصاله بجمعية الاستعمار، وعن طلبهم “الانضمام إليهم للذهاب إلى إفريقيا للبحث عن مكان يمكن فيه توطين الملونين، لكنَّه تُوفِّي في 9 سبتمبر 1917م، لتفقد حركة الهجرة إلى إفريقيا أهم الداعين إليها والداعمين لها، ولم يُعْرَف ما إذا كان “كوفي” على علم بالدوافع الحقيقية لخطة جمعية الاستعمار أم لا، وهو ما لم يتطرَّق إليه في مذكراته أو الرسائل التي تم الاطلاع عليها.

2- تمدُّن إفريقيا وتحضُّرها

كانت بداية معرفة “كوفي” بإفريقيا تعود إلى كونه أحد الأعضاء البارزين بـ”جمعية الأصدقاء”، والتي كانت تعرف باسم “الكويكرز” Quakers، وهي “طائفة مسيحية تاريخية تُعرَف رسميًّا باسم جمعية الأصدقاء الدينية؛ وهي مجموعة من المسيحيين البروتستانت، تأسَّست في القرن السابع عشر في إنجلترا على يد “جورج فوكس” George Fox (1624-1691م)”.

كان لجمعية الأصدقاء تأثيرٌ كبيرٌ في التكوين الفكري الديني والسياسي لـ”كوفي”؛ ففي رسالة إلى بعض أصدقائه عام 1809م؛ عبَّر “كوفي” عن أنه كان لديه “النية للقيام برحلة إلى سيراليون منذ فترة كبيرة؛ لشعوره برغبة حقيقية في أن يصبح سُكّان إفريقيا شعبًا مستنيرًا ومتحضرًا؛ من خلال تبشيرهم وتعليمهم المسيحية الحقيقية”، وبأنه “يشعر بالفخر كونه ينتمي إلى العرق الإفريقي”، وبأنه يثق بمقومات إفريقيا وبمواهب الأفارقة التي يمكن الاستفادة منها”.

وأيَّد القس “ريتشارد ألين” Richard Allen، الزعيم المؤسِّس للكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية African Methodist Episcopal Church مساعي “كوفي”، و”تحدث بحرارة لصالح الاستعمار في إفريقيا، وأعلن أنه سيذهب بنفسه لو كان في شبابه”، واعتبر “القس ألين” أن الخطة الحالية للاستعمار “تقدم مزايا عظيمة للسود الذين هم الآن في مرحلة الشباب”. كانت أهمية تصريحات “ألين” تكمن في كونه واحدًا من أقوى المعارضين للعبودية، لذا كانت تصريحاته تَصُبّ في مصلحة أهداف “كوفي” والجمعية.

وفي الأول من مارس عام 1817م، كتب “كوفي” إلى “فورتن” James Forten مُعبِّرًا عن سعادته بتكوين “المعهد الإفريقي”، واعترف “كوفي” بأن المجتمع الأسود “كان قَلِقًا من حركة الاستعمار”، لكنَّه طمأنه بقوله: “لا تقلق، وتوكل على الله”. ظهر من رسالة “كوفي” أن اهتمامه كان ينصبُّ بشكلٍ كبيرٍ على تعليم السود؛ فقد تحدَّث عن إخضاع السود للتربية الأخلاقية المسيحية، والتي كان يعتقد أنها لا تقل أهمية عن بناء المصانع في إفريقيا.

كان “كوفي يمتلك رؤية تهدف إلى بناء شعب قويّ وأخلاقيّ ومعتمد على الذات، كان يعتقد أن هذه المقومات قد تساعد في تحرير الأفارقة المستعبدين، وهو ما عبر عنه بقوله: “إذا كان السود الأحرار يبذلون جهدًا أكبر في الصناعة وتحسين الذات وتنمية المبادئ الأخلاقية، فسيكون ذلك عونًا كبيرًا لتحرير أولئك الذين يرزحون تحت نير العبودية”.

رابعًا: دلالات فكر “بول كوفي”

لم يدرك “كوفي” أن “قضيته العظيمة” كانت تختلف مع قضية الأفارقة الآخرين داخل أمريكا، فعلى العكس تمامًا من ذلك، كان هناك اعتقاد بأن الهجرة الطوعية تختلف اختلافًا كبيرًا عن هدف “الجمعية الأمريكية للاستعمار”؛ فقد كانت الجمعية تهدف إلى تنفيذ سياسة الترحيل، وتستهدف بالأساس الزنوج الأحرار، بينما العبيد يعانون من الظلم والتهميش والنسيان.

فالاستعمار الذي تبنَّته الجمعية يختلف بشكل كبير عن الهجرة التي دافع عنها السود، في حين أن القاسم الوحيد المشترك بينهما أن كلا المجموعتين كانا يهدفان إلى زيادة أعداد السود المهاجرين من الولايات المتحدة، فعندما بدأ البيض في حملتهم لإزالة السود، كان عليهم ربط الأفارقة في أمريكا بمكان آخر غير الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت المعلومات التي قدَّمها “كوفي” إلى “جمعية الاستعمار الأمريكية” عن إفريقيا، وبوصفها معلومات مقدَّمة من رجل أسود، معلومات على قدرٍ كبير من الأهمية؛ فقد كان السود يُعرّفون أنفسهم دائمًا على أنهم أفارقة، في الوقت الذي كان معارضو الهجرة يعرفون أنفسهم على أنهم أمريكيون ملونون، قدموا التضحيات من أجل أمريكا جنبًا إلى جنب مع البيض، لذا حاولوا تشويه الهوية الإفريقية وتبنّي الأفكار التي تدعي تخلف الأفارقة الأصليين لكسب تأييد البيض، بهدف اندماجهم داخل المجتمع الأمريكي. مما أكسب تقرير “كوفي” بُعدًا قوميًّا وجامعًا من شأنه أن يُحْدِث تحوُّلاً في مسار الفكر الأسود في القرن التاسع عشر، فقد مهَّد لوعي إفريقي جامع، وانفصالية في مواجهة دعوات الاندماج داخل المجتمع الأمريكي، فطالب بعلاقات وتجارة وصناعة وتنمية خلال زيارته للقارة الإفريقية، لتكون إفريقيا ملاذًا بديلاً عن دولة تعتمد بشكل كبير على استعباد الشعوب الإفريقية.

وختامًا:

في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فكَّر “بول كوفي” وغيره من السود الأحرار في الهجرة بوصفها بديلاً عن الحياة في دولة رفضت مَنْحهم حقوق المواطنة الكاملة.

تلقَّفت هذه الفكرة “جمعية الاستعمار الأمريكية”، والتي كانت تهدف إلى إبعاد الأفارقة الأحرار خارج الولايات الأمريكية، والذين أصبحوا من وجهة نظر أصحاب العبيد يمثلون الخطر الأكبر على مؤسسة العبودية، فحينما مات “كوفي” في نفس العام الذي وُلِدَتْ فيه الجمعية، استبدلت الجمعية الهجرة بالترحيل، وتنحَّت القيادة السوداء لصالح المؤسسة البيضاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.