تهريب المحروقات (٢٠١٣): والكل يوم معانا

0 57
كتب: د. عبد الله على إبراهيم
.
صار رفع الدعم فينا كالمواسم الطبيعية لا نملك معه صرفاً ولا عدلا. لم أقرأ في ما تذيعه الحكومة عنه، ولا مناهضيها من داخلها، إننا إزاء إشكال للحل في شرط الثورة والتغيير والانتقال. عدنا إليه كهبباي يعصف ويزلزل ويشقي ويمر. لم أقرأ في “عوتهما” إرادة للحل. فيكفي الحكومة عجزها وحرجها وتجملها ويكفي معارضوها الثوار إدعاء امتلاك حل لم نر له سرياناً في عظم الإمر. وغير خاف خلو وفاض قحت حكومة وأحزاباً ومهنيين من أرشيف عن رفع الدعم منذ طرأ على سياستنا وبالذات على عهد الإنقاذ. ووبمثل هذا الإرشيف تصقل الانتقالية حنكها في وجه الثورة المضادة التي خرجت ب”كلنا في الشرق رافعو دعم”. طلبوا التعادل وفازوا بالضربات الترجيحية. أعيد نشر هذه الكلمة عن رفع الدعم أعلق فيها على رفع الإنقاذ للدعم في سبتمبر ٢٠١٣.
من ضمن ما اعتبرت به الدولة في رفع الدعم، في قول الرئيس البشير في مؤتمره يوم الأحد الماضي، تهريب البترول إلى بلدان الجوار بما حصّل مليون طن سنوياً. وأضاف بأنه ليس بوسع الدولة حماية حدودنا العصية وتعقب المهربين. بل زاد بأنك لاتضمن “إلا نفسك”، كما نقول، في مثل تلك المناطق النائية. فحتى من تكلفه بضبط الحدود ربما أغرته رشاو المهربين المغامرين ذوي الجيوب الكبيرة.
واعتقادي أن في اعتبار الدولة أسعار السلع عند غيرنا في سياستها المالية كما تفعل ظلم كبير للمواطن السوداني. فأسعار السلع عندنا لا ينبغي أن تُحدد بفشل الدولة في ضبط الحدود، أو قصورها في أن تستعمل عليها من جندها القوي الأمين. ويحتار المرء إلى أين سينتهي مسلسل رفع الدعم (بل وما بعد زواله) بأسعار المحروقات لو ظلت الدول المحيطة التي تتخطفه منا رفعت بدورها أسعار محروقاتها بحيث يظل التهريب مجدياً في كل الظروف خلاف ما توقعت الحكومة.
ثم لنأت للحساب ولد. حاولت بشق الأنفس لن مثلي غير مختص بالاقتصاد التعرف من الإنترنت على سعر جالون البنزين في دول الجوار. فوجدته في جنوب السودان دولاراً وسبعة من عشرة في المائة (11 و9 من عشرة جنيهاً سودانياً)، وفي أثيوبيا دولاراً وواحد وأربعين من عشرة (تسعة جنيهات سودانية وسبعة عشرة) ، وفي تشاد دولاراً وستة وسبعين من عشرة (احدى عشرة جنيهاً سودانياً وتسعة من عشرة)، وفي أرتيريا تسعة دولارات وخمسة وثمانين من عشرة (ثمانية وخمسين جنيهاً سودانياً). وواضح أن أرتيريا وحدها من بين كل دول الجوار من كان ينتفع، لو صدقنا، بالتهريب. ولن نفطم أرتيريا عنا برفع الدعم لأن جالون البنزين عندنا بعد الدعم (21 جنيهاً) ما يزال مغرياً. وعليه فإن تهريب المحروقات معلومةُ جهته وضبطه مقدور عليه لأنه يجري في بعض حدودنا لا كلها.
ولابد من ذكر أن السلع التي تأتينا في مقابل محروقاتنا المهربة مما اشتد الطلب عليها. وهي الويسكي والبيرة “الساقطة” والأدوية منتهية الصلاحية في قول مدير الجمارك. فلا يمر يوم لا نلقي القبض فيه على “أجنبي” يبيع المكروه سراً.
والملاحظ، وحالنا يغني عن سؤالنا، أنه لا الرئيس ولا طاقمه الاقتصادي تطرقا لخفض إنفاق الدولة. فقد اقتصر المفهوم من هذا الإنفاق؟، للأسف، تقشف الطاقم الدستوري أو تقليص المؤسسات مثل قولنا “الحكومة الرشيقة”. وما زال وزير المالية يمنينا بتخفض المخصصات الدستورية ب 25% كما حظر على الوزير بالدولة أن يصحب أحداً (؟) في رحلاته الخارجية مهما كان الحال. وهذه بندوره وعرفنا دورها. فقد قال لنا في أيام كهذه في العالم الماضي إنه لن يسمح بغير عربة زوجة واحدة للدستوري. ثم صمت بعد ذلك عن الكلام المباح.
كنت نبهت في عمود قديم إلى أن إنفاق الدولة الذميم هو في شرائها السلع والخدمات. وقال الخبير الاقتصادي التجاني الطيب في مقابلة نادرة مع جريدة الأحداث إن الأوفق للدولة أن تخفض انفاقها (3 بليون) بدلاً عن رفع الدعم عن المحروقات (2و 2 من عشرة بليون). فرفع الدعم يزيد من التضخم بينما قمع طلب الدولة للخدمات والسلع من السوق لا يؤثر على التضخم. وكان وزير المالية قد وعد بتخفيض الانفاق ب25 % في 2012 ثم 20% في 2013. ثم حمد لبد. لم يفتح الله عليه بشيء في هذا الباب سوى قول مدير البنك المركزي إن الصرف على السلع والخدمات “معقول” وكده! وبالطبع لم تكن الأرقام في صالح الوزير. فقد زاد الانفاق في 2012 بمقدار 11%. أما في 2013 فالحال يغني عن السؤال.
ما استغربت له طوال حديث الحكومة عن دعم الشرائح الفقيرة أنه لم يرد ذكر لديوان الزكاة. وهذا حوبته وفي جزلانه الكبير ترليون جنيه إيرادات لحد اليوم من هذا العام. وأرجو أن نراقب الله في هذا المال المبهول خارج نطاق الميزانية لتتصرف فيه هيئة بيروقراطية لم تحسن استثماره بشهادة المراجع العام. ولعله من إسلام الحداثة أن تندمج الزكاة في ميزانية الدولة طالما كانت الدولة مسلمة شفوقة بالفقراء والمساكين إلخ. ولا أدري الفقه الذي فصل الزكاة من ميزانية أخرى لدولة مسلمة. وأرجو أن تكف ولاية الخرطوم والفدرالية والزكاة من عقلية “الأعطيات” للأسر المتعففة. لابد من نظام محتشم بعيد عن “كشف الحال” الحالي يقترب بنا من نظم الدول الغربية في حفظ وجه ماء المواطن المحتاج. فقد أمغصتني صور بعض الخيرين خلال السيول وقوفاً على عرباتهم يجدعون بالأكياس للمنكوبين المحتشدين. أو الذين يحرصون على أخذ صور معهم وسلام تعظيم. لقد جرعتم الناس الفقر فكفوا عن التسلي بهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.