ثوراتنا وصراع اليمين واليسار (2 من 2)
كتب: د. النور حمد
.
خلصت في الجزء الأول من هذه المقالة إلى أنني أرجح سيطرة اليمين العريض على مفاصل السلطة عقب الانتخابات، التي سوف تجري في نهاية الفترة الانتقالية. وكما سبق أن قلت فإن مصطلحيْ “يمين” و”يسار” ربما لا ينطبقان على حالة الانقسام السياسية السودانية التاريخية بين هذين القطبين، التي سادت فترة ما بعد الاستقلال، إلا بصورة مجازية. فما يسمى باليمين بقي عبر التجربة السياسية السودانية، لفترة ما بعد الاستقلال، تحالفًا عريضًا غير محدد الملامح. وأكثر ما يدل عليه هو تعدد الائتلافات التي حدثت بين مكوناته لتشكيل عدد من الحكومات، في أوقات مختلفة. وهي ائتلافات جرت بين حزب الأمة والإسلاميين والاتحاديين في الفترات الديموقراطية المتقطعة. وقد كان القاسم المشترك الأعظم بين هؤلاء هو شعار “إسلامية الدولة”، الذي لم يمنع حالات التنافر المؤقتة بينهم.
مثلت بوتقتا حزب الأمة والاتحادي من الناحية التاريخية الوعاء اللاَّم لأهل المصالح الاقتصادية. وقد انضم الإسلاميون، بعد أن مارسوا الحكم وذاقوا طعمه، وغرقوا في الفساد المالي والإداري، إلى مجموعة مصالح جديدة. تحول الإسلاميون من كونهم كيانًا أيديولوجيًا “رساليًا”، ليصبحوا جزءًا من مجموعة المصالح. والآن، بحكم فقدانهم الغطاء العسكري والأمني الباطش الساند لهم، سيقعون بالضرورة في الوعاء الحاوي لحزب الأمة، بكل شظاياه، إضافة إلى الاتحادي الأصل. يجمع بين كل هذه الكتلة العريضة؛ بشقيها السياسي والاقتصادي، ما يمكن أن نسميه “رهاب اليسار”. ورغم أن اليسار غير متحد وأن كتلته أصغر حجمًا من حيث السند الجماهيري، إلا أن كتلة اليمين لم تستهن يومًا بخطره عليها. ولذلك كلما أحست بدنو خطر اليسار منها، تناست خلافاتها والتصقت ببعضها، بدوافع شبه غريزية.
الآن تعقدت الصورة أكثر عقب دخول القوى العسكرية المختلفة، بصورةٍ جديدة، في هذه المعادلة. فقد أصبح للقوة العسكرية الحكومية شِقَّان شبه مستقلين، تحول كل واحدٍ منهما إلى “تايكون” اقتصادي. ودخلا إلى نادي المصالح بثقلٍ نوعيٍ ضخم، لم يتفق للعسكر في الماضي. يضاف إلى ذلك دخلت الحركات المسلحة بالأجندة الخاصة بها إلى المشهد المعقد أصلا. ولو أضفنا إلى كل ما تقدم السند المالي والسياسية من بعض القوى الإقليمية لهذه الكتلة، يصبح الحلم اليساري التقليدي بإحداث انقلاب راديكالي يقلب الخريطة السياسية السودانية، عبر الثورة رأسًا على عقب، في المدى القريب، مجرَّد تفكيرٍ رغبوي.
لقد دفعت هذه التحولات والتشكلات الجديدة رموزًا من مثقفي اليسار ومن الحركات العسكرية المحسوبة على اليسار، إلى اقتلاع خيامهم من معسكرهم القديم، لينخرطوا لواذًا في مغازلة كتلة اليمين العريضة هذه. ولهؤلاء، في تقديري، إن صح تحليلي، تبريرهم البراغماتي، وربما التكتيكي لهذه النقلة. فالثورة الآن في مطبٍّ لا ينكره إلا مكابر. فقد أصبحت قدرة الإسلاميين وكارهي اليسار، من أرباب المصالح، ومن بعض شركاء الحكم أنفسهم، على خنق المرحلة الانتقالية، حقيقةً بيِّنة. ولذلك لربما رأى رموز اليسار غير المؤدلج، في الالتفاف حول محور السيد الصادق المهدي ترياقًا ضد عودة الإسلاميين. يضاف إلى ذلك، ربما مثَّل لهم السيد الصادق المهدي مركبًا للتصالح مع المكون العسكري أو بعض قواه المؤثرة، وأيضًا، مع القطاعات المتدينة من الجمهور. وهنا، ربما قال قائلٌ: إن جماهير الثورة قادرةٌ على تعديل كفة الميزان. غير أن تشقُّق كتلة اليسار، وتضعضع قوى الحرية والتغيير، وعدم تجانس حكومة الفترة الانتقالية، إضافة إلى سوء تقديرات الحزب الشيوعي وخطأ رهاناته، ربما جعلت من المستحيل تعديل هذا الوضع قبل الانتخابات. بل ربما أصبحت غاية الآمال أن تمر الفترة الانتقالية بسلام، لا أكثر.