حتى الحمام أبى وجافاني
كتب: جعفر عباس
لأثبت لأصدقائي في السودان انني كنت في لندن كان لابد من زيارة في ميدان ترافلغر، حيث الحمام الذي يرك على الأكتاف، ويلتقط الحب من الأكف، وذهبت أكثر من مرة الى ترافلغر، واشتريت الحبوب وقدمتها للحمامات، ولكنني فشلت المرة تلو المرة في إقناع ذلك الحمام بأن يرِك على أي جزء من جسمي، بل إن إحداها عملت “عملة مش كويسة” على رأسي وهي تحلق من فوقي فهتف في وجه الحمام: يا عنصري ومغرور كل البلد جعفور.
وبعدها صرت والحمام “الشحمة والنار” وذات مرة دخلت مطعما في القاهرة وطلبت ثلاث حمامات مشوية فسألني الجرسون: نأخر الطلب شوية على بال ما جماعتك يوصلوا؟ قلت له إنه “مفيش جماعة حيوصلوا” وأنني سأتناول الطعام بمفردي! فصاح: هتاكل تلات حمامات لوحدك؟ قلت: نعم.. قال ضاحكا: ياه باين عليك جعان أوي، فقلت له أنني مش جعان أوي وأن ثلاث حمامات “فيها تشبعني وفيها أطلب زيادة” (قلت لقريبي ونحن نأكل الحمام ان عظمة منه انغرزت في لثتي فقال: همام إللي قِسٍركا كُني؟ الحمام كمان فيه عظم؟).
وبعد أن جرح حمام ترافلغر سكوير كرامتي، صرت حريصا على الفتك به محمرا ومشويا ونصف استواء، ولك ان تتخيل مقدار فخري وسعادتي عندما سمعت بحكاية السوداني الذي كان يسكن في وسط لندن، وكان ينثر الحبوب يوميا على بلكونة شقته، فيجتمع الحمام بالعشرات ليلتهمها، وصار صاحبنا محبوبا من قبل الجيران الذين أكبروا فيه حبه للحمام، خاصة بعد أن وضع بعض صناديق الكرتون في البلكونة وصار الحمام يتناول وجباته هناك، ثم يأخذ “تعسيلة” داخل الصناديق عندما يشتد الحر او ينزل المطر، وشيئا فشيئا رفع الحمام التكليف وحول تلك الصناديق إلى عنابر ولادة، وحقيقة الأمر هي أن ذلك السوداني البطل كان قد أعد خطة إجرامية لاستدراج الحمام الى البلكونة و”إقناعه” بوضع البيض وتربية الصغار فيها، وكان كلما بلغت الحمامات الصغيرة الحجم المثالي ل”الأكل” تسلل ليلا الى البلكونة وحملها وذبحها وطبخها وتخلص من آثار الجريمة بالتخلص من الريش والأحشاء عبر شبكة الصرف الصحي… وعاش صاحبنا في تلك الشقة سنتين وهو يأكل الحمام يوميا، وجيرانه معجبون بالأفريقي ذي القلب الرقيق الرحيم، ولو عرفوا حقيقة أمره لمزقوا قلبه بأسلوب غير رحيم.. وعندهم إلحاق الأذى بشخص أسود “تعبير ديمقراطي عن موقف سياسي” ولكن أن تصيب حمامة أو كلبا بأذى فتلك جريمة لا تغتفر.
كان أصدقائي يتوقعون عودتي ومعي صور حسناوات لندن اللواتي تحرشن بي، فكان نصيبي من التحرش لحسة من كلب جاري الإنجليزي على خدي، وتلك السوداء غير الجميلة ولكن مستطيلة التي قبقبتني وجرجرتني كي أراقصها فأصبت بالاختناق بعد ان غاص رأسي في تلافيف شحومها المشبعة بالكولسترول وثاني أوكسيد الديتول، ولهذا لم أرجع الى لندن مرة أخرى إلا وأنا محصن ضد التحرش ب… الزواج.