حركة المرور والوقت والحداثة

0 82

كتب د. النور حمد:

يقتضي تقدم الحياة البشرية، وخاصةً في مجال الاقتصاد، والتنمية، سرعةً في الحركة. من أجل هذا تطورت وسائل النقل، وتعددت، وتضاعفت سرعاتها، عبر الزمن. في هذا الباب، تحسنت هندسة خطوط السكة الحديد، ووصلت سرعات القطارات إلى ما يزيد عن خمسمائة كيلومتر في الساعة. كما أصبح إنشاء الطرق السريعة، الرابطة بين المدن، والأقطار، والقارات علمًا هندسيًا، قائمًا بذاته. أيضًا، تقدمت وسائل ضبط، وتنظيم، حركة المرور، داخل المدن الكبيرة، من أجل تحقيق أكبر قدر من سهولة التحرك. عمومًا، كان الغرض من وراء كل تلك الجهود المضنية التي استغرقت قرنًا، ويزيد، تحقيق أكبر قدرٍ من اختصار الوقت، بين نقطة ما، وأخرى. ويجري التعبير عن كل هذا المنحى، وفقًا لعبارة الغربيين، القائلة: “الوقت هو النقود” (Time is money). أي حين تخسر الزمن، فأنت تخسر مالا.

سارت الأمور في السودان بعكس هذا تمامًا. كانت سكة الحديد، منضبطةً في حقبة الاستعمار. وما أن جاء الحكم الوطني، بدأت تفقد انضباطها. ثم ما لبثت، أن أصبحت، على يد الإسلاميين، أثرًا بعد عين. في أخريات حقبة الانقاذ الكئيبة، حاولوا إعادة تأهيلها، ولكن من أجل نهب المال العام، لا من أجل التنمية، والتحديث. أعادوا إنشاء القضبان بين الخرطوم وعطبرة، والخرطوم ومدني، بصورة سيئة. فأصبحت سرعة القطار لا تتعدى 40 كيلو مترًا، في الساعة. وقد كانت قاطرات البخار، تسير، في ستينات القرن الماضي، بأسرع من ذلك. أما الخطوط الجوية، والخطوط البحرية، والنقل النهري، فقد أصبحت، كلها، أثرًا بعد عين. كما تدهورت الطرق البرية، بضعف الصيانة، واكتظت بنقاط التفتيش، التي تشل حركة المرور، وامتلأت بالحفر. فأصبحت الحوادث، وفقدان الأرواح بالعشرات، على هذه الطرق روتينًا، شبه يومي.

أما أكبر تجسيد لهذه الأزمة فتمثله العاصمة القومية، التي أوشكت حركة المرور فيها، أن تصل إلى حالة الشلل التام. وأصبح أي مشوارٍ، من أمدرمان إلى الخرطوم، على سبيل المثال، لقضاء مهمةٍ واحدةٍ، يستغرق اليوم كله. مع ذلك، يستمر الترخيص للمركبات الجديدة الصغيرة؛ من سيارات صالون، وحافلات صغيرة الحجم، وركشات، وتُك تُك، وغيرها، مع انصرافٍ، لافتٍ، عن التفكير في وسائل أكبر للنقل العام. ويستمر هذا المنحى الضار بالاقتصاد، وبالبيئة، بلا تفكير في سعة الشوارع. فبلادنا، في عموم حالها، تسير إلى الوراء، ونوشك، الآن، أن نفقد السيطرة على مسارها هذا. فالنمو الاقتصادي، وجذب الاستثمارات، وإنعاش السياحة، تعتمد، كلها على ما تحققه الدولة من سرعةٍ، وسهولةٍ، في التنقل. ثم الحفاظ، باستمرار، على زيادة معدل تلك السرعة. وكلُّ بلد أصبحت أموره، خارج نطاق هذه المعادلة، فهو، بلا ريبٍ، خارج نطاق الحداثة، ولا ينبغي له أن يحلم بمكانٍ، مرموقٍ، في عالم اليوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.