دستور ١٧٨٧ الأمريكي: مهرجان للمساومة

0 87
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
أزف في ثمانيات القرن السابع عشر موعد قيام أمريكا الفدرالية بمركز ذي سلطان على الولايات مما لم يكن الحال تحت الكونفدرالية. والأخير هو النظام الـذي تعاقدت عليه تلك الولايات في ١٧٨١ بعد تحررها من إنجلترا في ١٧٧٦. وقيل ليس من شيء لا يحدث متى أزف وقته. وحدث هذا المركز المدبج بالسلطات على الولايات في مؤتمر دستوري بفيلادلفيا في ١٧٨٦-٨٧. واحتاج المركز ليتحقق لعزائم مشرعين ذوي رؤية ودربة في اختراق “عكد” الخلاف بأريحية المساومة كما سنرى.
فشلت محاولات عديدة لتعديل قوانين الكونفدرالية كان نجمها الإكسندر هاملتون، من آباء التأسيس ووزير خزانتها الأول وكاتب “أوراق الفدرالية”. والكونفدرالية هي النظام الذي اجتمعت به الولايات الثلاث عشر حول مركز مجرد من السلطان كما تقدم . فأجتمع نواب الولايات في مونت فيرنون (حيث دار واشنطون) في 1785 وفي أنابولس في 1886 لبحث خيارات أخرى. وبعد أنابولس استجاب كونغرس الكونفدرالية بحذر، ولكن بإيجابية، إلى دعوة للاجتماع طالما كان القصد مراجعة قوانين الكونفدرالية لاغير. فسمت ٥ ولايات مندوبيها في 1786. وسارعت ثورة شي في ولاية ماساشوستس (١٧٨٦-١٧٨٧)، التي كشفت هوان المركز الاتحادي، بتسمية مندوبي الولايات المتبقية ما عدا رود إيلاند. وبلغ عدد المندوبين 73 جاء منهم 55 إلى فلادلفيا، موقع الاجتماع. ووقع 39 منهم على وثيقة الدستور النهائية.
كان أعضاء المؤتمر على قناعة بالحاجة إلى دستور جديد ولكنهم اختلفوا بالذات حول سلطان الحكومة المركزية. كما كان تمثيل الولايات في المركز بالنظر إلى اختلاف عدد السكان عائقاً في سبيل الاتفاق.
كان دعاة قيام مركز فعَّال من الرجال المتعلمين ذوي اليسار والسابقة في النضال ضد الإنجليز مثل واشنطون وهاملتون وماديسون وفرانكلين مما سوغ لهم الارتفاع فوق دقائق الولاءات المحلية إلى الولاء الوطني. وكانوا جميعاً خدموا كدبلوماسيين وإداريين وقادة خلال حرب التحرير. كانوا أصغر سناً من مثل صموئل آدمز وغيرهم ممن في نفسهم شيء من الحكم الممركز الذي عاشوه تحت الإنجليز. ولكن لم يكن مؤطرو الدستور (الفريمرز) الشباب يخشون أن تفسد مصلحة للولايات تحت سلطان الحكومة المركزية. كانوا دارسين لمّاحين لتجربة بلدهم والحوكمة المقارنة مع أوربا طامحين في توطيد بنيات لجمهورية مستدامة لتحقق السيادة الوطنية ولجم “ملعوبات الديمقراطية المباشرة ومطباتها”. والديمقراطية المباشرة هي اجتماع الناس المباشر حيث هم (تاون هول) للفصل في المسائل بما يتقيد مندوبهم به في الكونغرس فيتعذر عليه التنازل لعقد المساومات التي لا سبيل للتشريع بغيرها. وكان هم الجيل مع ذلك أن تكون هذه الحوكمة محدودة أيضاً بصورة تكفل للفرد تقرير مصائره في بنية من الحرية المسئولة. ما اختلفوا حوله هو الوسائل. فكان هدفهم جميعاً في قول ماديسون: “ضرورة أن نرعى بصورة ناجزة الحقوق الخاصة وكفالة العدالة بشكل مستقيم”.
ترك المؤتمر تفويضه الأصل بتعديل قانون الكونفدرالية واتجه نحو صياغة دستور جديد على رؤي ومسودات سابقة منها خطة ولاية فرجينيا التي كان ماديسون من ورائها. وحملت الخطة تصوراً لحكومة مركزية قوية تأذن للولايات بسلطات محدودة. واعترضت الولايات الأصاغر، ذات السكان القُلال، عليها لأنهم لن يحظوا بتمثيل معادل للولايات الأكابر في مجالس الكونغرس. وأراد ماديسون تأليف هذه الولايات بأن دعا إلى أن التمثيل في المجالس لن يكون بالولاية ولكن بأهلها بما يضمن للولايات الصغرى عدداً من النواب بقدر الأكابر. ولكن لم تطمئن الولايات الأصاغر لذلك. وقال ممثل نيوجيرسي الصغيرة إنه “ليفضل أن يخضع لملك وظالم من أن يلقى مصيراً تحت تراتيب ماديسون”. وقدمت نيوجيرسي خطتها التي عدلت بها نواقص قوانين الفدرالية مع احتفاظها بكثير مما يكفل استقلال الولايات.
جرى تأليف الولايات الأصاغر بخطة ولاية كونتيكت (المساومة الكبرى) التي كفلت للولايات جميعاً أن تمثل بعدد متعادل في مجلس الشيوخ بينما يجرى التمثيل وفرض الضرائب على بينة عدد السكان. ولأن ببعض الولايات رقيق أفريقي أكثر من غيرها تواثقوا على أن يعد الرقيق ثلاثة أخماس الحر خصماً من الولايات الغاصة بالرقيق. ومنح المؤتمر مجلس النواب حق التشريع حول ميزانية الدولة.
واتفقت للمؤتمر مساومات أخرى. فقد ضمنوا للشمال حماية فدرالية كاملة للتجارة والأعمال. وحموا الجنوب الزراعي من ضرائب الصادر علاوة على استمرار استيراد الرقيق قبل أن يُمنع بعد عشرين عاماً من تاريخه. وأملت مصالح تجارية أن تكون إجازة مجلس الشيوخ للمعاهدات بنسبة الثلثين. واعتمدوا نفس النسبة في إجازات تعيين موظفي الدولة الذين يرشحهم الرئيس. وكذلك اعتمدوها لافساد فيتو الرئيس على قرارت الكونغرس.
ورأى القارئ أن مجلس هؤلاء الرجال لأحرار خلا من النساء. وسيبقي ذلك حاله حتى ١٩٢٠ عام منح المرأة حق الاقتراع. والأصعب من الجهة الأخرى ليس خلوه من الأفارقة الأمريكيين الرقيق بل أنهم عدوا الواحد منه ثلاثة أخماس الحر لغرضهم. ولن ينال هذا الأفريقي حقاً في سياسة بلده إلا بعد الحرب الأهلية في ١٨٦1-1865. فالديمقراطية هي أحسن أسوأ نظم الحكم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.