رأي في البناء القاعدي وعقيدات الاصطفاف الثوري

0 72

كتب: د. بكري الجاك

.

فكرة البناء القاعدي لها أصول معرفية في النظرية السياسية والعلوم الإجتماعية كوسيلة لتنظيم وإدارة المجتمع، وفي تأسيس الانظمة السياسية وبشكل عام يمكن إرجاعها إلى أصلين معرفيين من حيث التنظير والممارسة: أولاً، فكرة البناء القاعدي مستمدة من مستويات الحكم في الدولة، ففي الأنظمة الفيدرالية هنالك سلطة مركزية لها صلاحيات محددة مثل الدفاع، العملة، العلاقات الخارجية والتجارة الدولية كما في النموذج الأمريكي، أما بقية الصلاحيات من الشرطة والتعليم وإدارة الصحة وكل ما تبقى من خدمات تدار شراكة ما بين حكومة الولاية والمحلية وإدارات المدن والقرى إلى مستوى مجلس التعليم School Board of education الذي ينتخب في كل دائرة إدارة مدرسية، بالطبع هنالك برامج تدار شراكة بين الحكومة الفيدرالية ومستويات مختلفة من الحكم المحلي مثل الوجبات التي تقدم للمدارس التي بها نسبة مقدرة من ذوي الدخل المنخفض. وحتى الدول المركزية مثل مصر تتمتع بمستوى من الحكم المحلي.

 

والفرق بين نظام مركزي ولا مركزي هو في أصل مصدر السلطات، ففي النظام الفيدرالي السلطة محلية في الأساس وهنالك تقاسم لبعض السلطات بين المركز والولاية. أما في النظام المركزي فسلطات الأقاليم تمنح من المركز ولا تستمد من المحليات، وفي مثل هذه الأنظمة كل السلطات محددة ومعرفة وفقا لصيغة قانونية دستورية.

 

الأصل الثاني من البناء القاعدي ما يعرف بالـ(Grassroots) فتلك منظومات تقوم بعمل على مستوى القواعد ذات المصالح المتشابهة وهي عادة ما تقوم على أساس ما يعرف بالـ(Community-based Organizations) أي المنظمات المجتعمية القاعدية التي لها أشكال متعددة مثل الروابط المناطقية لخدمة أهداف محددة، ولها طرق عدة في التنظيم وأساسها أيضاً التعبير عن مصالح القواعد عن طريق تقليص التقارب بين القيادة والقواعد على نقيض المنظومات الهرمية التي تكون فيها القيادة على مسافة بعيدة من القواعد.

 

وفقا لهذا الإطار النظري وحكمة التجارب العملية، فيبدو لي أن ما يدور من حديث وما يشاع من تصوارات حول البناء القاعدي قد لا تقود للنهايات التي يصبو إليها الناس، ففي الأساس فكرة البناء القاعدي ليست غاية في حد ذاتها وإنما وسيلة لضمان شرعية التمثيل والتعبير الأمثل عن تطلعات المُمَثلين. وحتى فكرة البناء القاعدي في النقابات أعتقد أنه علينا نحن السودانيون إدارة حوار جاد وشفاف بعيداً عن الأهواء السياسية حول كيفية تنظيم العمل النقابي وفق التطورات العصرية والمستجدات الحياتية في القرن الحادي والعشرين، الذي لا يشابه خمسينيات القرن الماضي في شيء، حيث لم يعد يمكن قيام جسم مركزي لكل مهنة قادر على التعبير عن كل الأعضاء بمن فيهم من أصحاب عمل وعمال، وفي تقديري تجربة التطور التاريخي للعمل النقابي في السودان فيها خلط ما بين الأجسام التي تنظم المهن وهي أجسام احترافية مثل مجالس التخصصات التي تضطلع بتعليم المهن وتطويرها وتنظيمها وبين النقابات التي تعبر عن مصالح الأعضاء المادية.

 

في تقديري الحديث عن بناء قاعدي للجان المقاومة كحل سحري لمشكلة التمثيل التي أراها قادمة لا محالة ما هو إلا شرك لوأد هذه التجربة بكل ما فيها من إبداع في الخيال وشجاعة في المبادرة وابتكار في أدوات المقاومة وفي طرق العمل والتفكير وذلك لأن لجان المقاومة لجان سياسية بامتياز وإن كان بعضها غير مُحَزّب أي (Nonpartisan) وهي ليست محايدة بمعني أنها (apolitical) وتتأفف من السياسة والأحزاب السياسية كما يتم تصويرها في المخيال الشعبي إذا ما عرفنا السياسة على أنها “تعريف وإعادة تعريف المصلحة العامة والخاصة”.

 

ليكون هنالك معنى للبناء القاعدي بهذا التصور على لجان المقاومة أن تتحول إلى حركة سياسية أو حزب سياسي بنظام أساسي وهدفه الكلي تأسيس سلطة مدنية كاملة في السودان وإدارة الانتقال الديمقراطي خلال مرحلة انتقالية لتأسيس الجمهورية الثانية تتم فيها المهام الآتية: توحيد الجيوش وبناء جيش وطني وفق عقيدة جديدة أساسها احترام الدستور وحماية الحدود وتقديس المواطنة، صناعة دستور دائم والاستفتاء عليه، الاضطلاع بعملية بناء جهاز الدولة وفق عقيدة وظيفية جديدة، إحلال السلام الدائم والعادل وتحقيق العدالة الانتقالية ومن ثم الإدارة الرشيدة لاقتصاد البلاد بالتوافق على خطة تنموية.

 

وفق هذا التصور سوف لن تكون هنالك لجنة مقاومة الصافية أو عد الفرسان بل حزب لجان المقاومة، أو سمه حركة التأسيس والبناء إن شئت، فرعية الصافية وهذا يعني ربما يكون هنالك فرعية أحزاب أخرى في الصافية ولا يمكن أن يزايد أحد على أن لجنة الصافية لا تعبر عن كل الصافية حتى ولو ملأ أرانيك عضويتها نصف سكان الحي، فمن غير المنطقي أن تتطابق آراء الناس فقط لأنهم يقطنون نفس الحي وهذا لب إعادة تعريف المصلحة العامة التي ليس ساسها السكن فقط بل أيضاً المواقع الإجتماعية والطبقية والتوجهات الآيدولوجية والوجدانية.

 

الخيار الآخر أن تظل لجان المقاومة وبكافة أشكالها وتنسيقياتها تلعب دوراً شبيهاً بدور تجمع المهنيين في السابق كقيادة شبحية تتمتع بدرجة عالية من المرونة والمناورة في تطوير أشكال المقاومة والتنسيق وفي تأطير الخط السياسي الثوري، والقدرة على المبادرة وهذا يعني أنه يجب الإجابة على كيفية تنسيق الجهود لتطوير آليات بديلة لتمثيل الرؤية الثورية والحديث نيابة عنها دون الدخول في سؤال شرعية التمثيل الإجرائية الذي لا أرى إجابة له الآن في كل الأطروحات السائدة.

 

من واقع الحوارات والنقاشات التي تفجرت من هذه المقالة، ومن حواراتي مع بعض المنخرطين في لجان المقاومة ويعملون الآن على عقد مؤتمرات للبناء القاعدي تبينت لي بعض النقاط أوردها في الملاحظات القصيرة التالية:

 

ملاحظة أولى: ليس هنالك توافق أو تصور مشترك لفكرة البناء القاعدي ويبدو أن هنالك العديد من اللجان التي تتعامل مع البناء القاعدي بما يشابه فكرة الحكم المحلي والمجالس البلدية التي تلعب دور المشرّع والمراقب لأداء الجهاز التنفيذي على مستوى المحليات، بهذا المعنى القضايا المحلية حسب الترتيب تحتل الأولوية في سياق ترتيب الأجندة الثورية بل أن المدخل للاجندة الثورية هو الأجندة المحلية.

 

ملاحظة ثانية: هنالك اعتقاد بأن التنظيم سابق للرؤية وأساس التنظيم ومرجعيته في هذه الحالة هو السكن ورفض الواقع الماثل ومقاومة هذا الواقع، هذه الشروط الثلاثة هي الحد الأدنى لنيل عضوية اللجنة وجمعيتها العمومية لتصبح فاعل ومن ثم المشاركة في الجمعية العموية للتوافق حول رؤية الحي أو المنطقة بافتراض أن الناس يجب أن يطوروا رؤاهم تشاركياً وهذا المدخل في محصلته إذا كتب له النجاح قد ينتهي بالدخول إلى القضايا المركزية مما هو محلي. في تقديري أن هذا المدخل لا يعظم فرص نجاح الكتلة الثورية وهو بمثابة وضع الحصان خلف العربة. الرؤية يجب أن تسبق التنظيم وطبيعة الرؤية قد تحدد شكل التنظيم والهياكل الأنسب. فإذا كانت الأهداف الثورية المعلنة المتوافق عليها حالياً بواسطة كل القوى الثورية هي تفكيك الدولة المركزية الأحادية العسكرية وبناء دولة المواطنة المتساوية التي تصون الكرامة، وهي دولة مدنية في كل سلطاتها ولها جيش واحد بعقيدة جديدة ومؤسسات أمنية خاضعة لسلطة مدنية ولا تتدخل في شالسياسة. هذه أهداف مركزية وعليه المدخل إليها من منظور القضايا المحلية لا يعظم فرص توحيد الخطاب الثوري والتوافق على أهدافه الكلية.

 

عليه في تقديري يجب أن تسبق الرؤية الكلية وأن تكون هي أساس التنظيم وليس السكن ورفض الواقع الماثل والرغبة في مقاومة الواقع الماثل بفعالية، فهنالك الكثير من الناس الذين قد يسكنون نفس الحي ويرفضون الواقع الماثل ويرغبون في مقاومته لكن ليس بالضرورة يتفقون مع رؤية بناء دولة مدنية بمواطنة متساوية تسعى إلى تحقيق العدالة الإجتماعية والعدالة النوعية. من هذا المنظور فكرة أن الانتقال من الحشد إلى التنظيم يجب أن تقوم على ما هو أعلى من الحد الأدنى للمشروع الثوري، فهذه بذرة صراع رؤى لا محالة، هذا بالإضافة إلى أن تقديم التنظيم على الرؤية يجعل من التنظيم غاية وليس وسيلة.

 

ملاحظة ثالثة: التفكير في المشروع الثوري في شكل ماذا نريد ولماذا نريد ما نريد وكيف نحصل على ما نريد قد يبسط التعامل مع فكرة البناء القاعدي بشكل أكثر نقدية وعقلانية. فماذا نريد هي الرؤية الثورية التي تطالب بقيام دولة مواطنة بسلطة مدنية وجيش موحد لا دخل له بالسياسية، وباقتصاد دولة تنموية تراعي الإنسان وكرامته وتعمل على بناء المؤسسات التي تحقق هذه الأهداف من نظام حكم وهياكل حكم وخطط وسياسات. لماذا نريد ذلك؟ كل منا قد يجيب على ذلك بسرديته الخاصة فبعضنا سيقول عشان مستقبل أولادنا وشبابنا وقد يقول آخر أرغب في حياة كريمة وفرص عمل وبعضنا قد يحلم بلمة مع أهله وسط شعور بالأمان، وبغض النظر عن لماذا نريد ما نريد إلا أننا متفقون على ما نصبو إليه جميعنا. أما كيف نحقق ذلك فهذا سؤال الآليات والأدوات ومن هذا المدخل يصبح البناء القاعدي محض وسيلة لتنظيم الصفوف الثورية ولتطوير أجندة ثورية شاملة تستصحب الجغرافيا والتبيانات الثقافية والأثنية ولتصعيد قيادة ثورية منتخبة وخاضعة للمحاسبة بواسطة القواعد. وفق هذا التصور يمكن التفاكر عن شكل التظيم الأمثل الذي يحقق الأهداف المنشودة دون سفسطة وتمسك بنموذج محدد فكل أشكال التنظيم هرمية كانت أم عنقودية أم أفقية هي محض أدوات وليس بها ما هو مقدس.

 

ملاحظة أخيرة: التعاطي مع أن تمرين البناء القاعدي حتى وإن تم وفق إطار نظري غير ملائم كمدخل لتحديث المجتمع فكرة جديرة بالتأمل وتستحق الاهتمام، فهي صحيحة نظرياً حيث أن أي تجربة عمل وبراكسيز Parxis تكسب معرفة وتراكم خبرات، وبما أنها طريقة تتجاوزر الانتماءات الأولية من وشائج قبلية وإثنية وعرقية فهي بالضرورة ستساعد في تحديث المجتمع. المشكلة تكمن في أن هل هذا هو الطريق الأمثل لتحديث المجتمع؟ وهل كلفة هذا المسار أعلى من طرق أخرى؟ والأهم هو أن هذا المدخل ينافي كل تجارب الإرث الإنساني، فتحديث المجتمع كظاهرة حضارية عبر التاريخ ارتبطت بقيام الدولة وبالتحديد الدولة القومية الحديثة التي لها اقتصاد وطني وعملة وحدود وتعريف محدد للمواطنة ومعايير لقياس مستوى المعيشة وغيرها من الأدوات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.