رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الخروج من الذات لملاقاة الآخر!

0 49
جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة
.
كتب: الواثق كمير
.
الحلقة (25)
أفكار جديدة لمنصور:
وحدة المعلومات والبحوث السودانية (3)
وما عقَّد أمر عمليَّة التسجيل، هُو قرار منصور وصلاح أن تكون “سيرو” شركة محدودة يتم تسجيلها خارج الحُدود، (أوف شور)، على أن يكون لها فرعٌ في القاهرة. تحصَّلتُ على قائمة طويلة من المطلوبات، من مُستنداتٍ وشهادات، لا يتم تسجيل فرع الشركة بدون اكتمالها، بعد أن استعنتُ بمُساعدي السيِّد صلاح، فالرُّوتين البيروقراطي لاستخراج الأوراق المطلوبة. فقد كانت معظم مُتطلبات التسجيل تتعلق بتأسيس الشركة الأم، خارج الحُدُود، إذ تضمَّنت وثائق بقرار الشركة بافتتاح فرعٍ مصر، وتوكيل منها للمدير بإدارة الفرع، والنظام الأساسي للشركة، وأن تكون جميع المستندات باللغة الإنجليزيَّة ومعتمدة من القُنصليَّة المصريَّة بالخارج، ومُصدَّقاً عليها من وزارة الخارجيَّة المصريَّة، ذلك إضافة إلى عقد إيجار أو شهادة ملكيَّة المقر.
لاستيفاء متطلبات إنشاء وتسجيل الشركة الأُم، واتخاذ الخُطوات اللازمة، تمَّ عقد اجتماع لمجلس الإدارة شركة “سيرو” المحدودة، السيد صلاح الدين إدريس ود. منصور خالد، في مدينة روود، في جُزُر فيرجن البريطانيَّة، التابعة للمملكة المتحدة وراء البحار، في 14 يناير 1999. تولى منصور خالد رئاسة الاجتماع، وصلاح إدريس سكرتيراً ومُدوِّناً لمحضر الاجتماع. أشار رئيس مجلس الإدارة إلى ضرورة النظر في افتتاح مكتب فرعي في القاهرة، فرع مصر، من أجل تعزيز أنشطة الشركة. وفي هذا الصَّدَد، كان على الاجتماع أيضاً أن ينظُر في تسمية محامٍ للشركة للانتهاء من التسجيلات الإضافيَّة. تبعت ذلك بعض المُناقشات ومن ثمَّ، تمَّ التوصُّل بالإجماع إلى أربعة قرارات، على رأسها أولاً، أن تشرع الشركة في تأسيس فرع لها في مصر (فرع مصر)، وثانياً، يكون الدكتور منصور مُفوَّضاً بموجب هذا الأمر بإخراج أي مستنداتٍ تتعلق بافتتاح فرع مصر، حسبما يكون مناسباً وفقاً للظروف، نيابة عن الشركة أو أي مستند صك أو اتفاقيَّة أخرى أو تعهُّد آخر قد يكون ضرورياً أو مناسباً.
ومن ناحية مُهمَّة بناء قاعدة المعلومات، وقبل اختيار الخبير المعني (بحسب مقترح المشروع)، وحتى قبل تعييني كمنسقٍ/مُستشار لتأسيس “سيرو” في أبريل 1999، بادر د. منصور بالاتصال بـ“مجلس البُحُوث العلميَّة والصناعية (CSIR)”، وهو المنظمة الرئيسة للبحث والتطوير العلمي المركزيَّة ببريتوريا في جنوب أفريقيا، ولها قسمٌ خاص مُعنى ببناء بنوك المعلومات. فمنذ نوفمبر 1998، خاطب د. منصور مدير المجلس، ستيفن فيرن، في أواخر نوفمبر 1998، وأرسل له وثيقة مشروع “سيرو” طالباً التعاون في تطوير قاعدة المعلومات للوُحدة. وأيضاً قبل تعييني رسمياً، رشَّحتُ د. عاصم عبدالرحمن صغيرون، الأستاذ المُشارك بكلية علوم الكمبيوتر والهندسة، جامعة شمال أريزونا، كمستشار فني للمعلومات والتكنولوجيا في مطلع مارس 1999. وفي 9 مارس 1999، خاطب د. عاصم مدير المجلس، ستيفن فيرن، مُعرِّفاً له بنفسه كمستشار فني لـ“سيرو” وبأنه سيكون جزءً من مرحلتي الاستحواذ والتطوير لقاعدة البيانات، والإشراف على تركيب الأجهزة والبرامج في منشآت المركز بالقاهرة، وهو يهدف إلى إقامة اتصال مع المُؤسسة والتفاكُر حول أشكال التعاوُن المُرتقبة بين المُؤسسة و“سيروّ”. وقد ردَّ مدير المجلس على عاصم، مُوضِّحاً أنَّ لهُم فريقٌ كبير من الأخصائيين ممَّن يملكون القدرة على مساعدة “سيرو” في تطوير قاعدة معلوماتها، مُشدداً على ضرورة ترتيب زيارة لمقرِّ المجلس. وبالفعل، رافقتُ د. عاصم في زيارة إلى بريتوريا في منتصف مايو 1999، وعقدنا اجتماعين في يومين متتاليين دار خلالهما نقاشٌ مُطوَّل حول قواعد ومُوجِّهات تطوير قاعدة المعلومات المقترحة، والحاجة إلى مقترح لمرحلة تحديد متطلبات المستخدمين للمشروع، على أن يقوم المجلس بتقديم دراسة جدوى في هذا الخصوص.
بنهاية سبتمبر 1999، واستلامنا لدراسة جدوى متكاملة لقاعدة المعلومات المطلوبة من مجلس البحوث بمركز بريتوريا، كنتُ قد أكملتُ الثلاث مهام الموكلة إليَّ: متابعة إجراءات تسجيل الوُحدة وفق متطلبلت القانون المصري، تأسيس المكتب من أثاثات وأجهزة ومعدَّات، والشُرُوع في الاتصال بالمراكز المتخصصة في بناء بنوك المعلومات. وبحسب اتفاقي مع مؤسسي “سيرو”، كان عليَّ أن أغادر للالتحاق بعملي الجديد مع المركز الكندي لبُحُوث التنمية الدَّوليَّة، ورشَّحتُ لهُما د. صلاح الدين الشاذلي، المُحاضر في مركز دراسات وبحوث التنمية، جامعة الخُرطوم، والذي كان حينذاك منتدباً إلى جامعة أديس أبابا، كبروفيسور في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة. وبالرغم من العقد الذي وقعه مع د. منصور، كان على د. صلاح إكمال العام الدراسي بالجامعة، ممَّا لم يُمكِّنه من الوصول إلى القاهرة إلا في مطلع أغسطس عام 2000. بالطبع، التقيتُ بصلاح وعقدتُ معه اجتماعاً بغرض التسليم والتسلم بعد أن أوضحتُ له كتابة وشفاهة كل ما تمَّ إنجازه خلال الأشهُر الماضية فيما يتعلق بالمهام الثلاث التي قُمتُ بها، وأعطيتُه نسخة من مقترح المشروع الذي أعددتُه مع بروفيسور محمَّد الأمين التوم في مارس 1998.
قام د. صلاح بإعداد مذكرة/تقرير عن استراتيجيَّة وخُطة عمل وميزانية “سيرو” لعامين، مُرفقاً لمُذكرات مفاهيمية ومقترحات لعددٍ من المشروعات التي تحتاج لتمويل، وذلك في إطار ثلاثة برامج رئيسة: التوثيق وقاعدة المعلومات، البحوث والاستشارات، والنشر (سمنارات، ورش عمل، مؤتمرات، ومطبوعات). وفي أكتوبر/نوفمبر 1999، انعقد الاجتماع الأوَّل لمجلس إدارة سيرو، الذي ضمَّ بجانب منصور كلاً من دكتور فرنسيس دينق، دكتور عبدالرحمن الطيِّب علي طه، وصلاح إدريس. طرح صلاح على المجلس تصوُّره للهيكل التنظيمي لـ“سيرو”، مُقترحاً، بجانب مجلس الإدارة، هيئة استشاريَّة فنيَّة، ومن ثمَّ المدير التنفيذي للوحُدة ومساعديه في البرامج والإدارة والماليَّة. كما وضع خُطة عمل من مرحلتين، بحيث تبدأ النشاطات بمجرَّد موافقة مجلس الإدارة عليها، على أن تكون المرحلة الأولى مُوجَّهة بشكلٍ كبير إلى استكمال إنشاء “سيرو”، خاصة تأسيس مكتب الخُرطوم. ذلك، إضافة إلى مهام رئيسة أخرى تتعلق بالرَّبط الشبكي، وبناء وتعبئة بنك البيانات والاستعدادات لعقد الندوات الأسبوعيَّة وورش العمل الفصليَّة. بينما ستُوجَّه المرحلة الثانية إلى تدعيم وتوطيد الأنشطة والتي ستكون الوُحدة خلالها قد استعدَّت للعمل بكامل طاقتها (باستثناء إطلاق قاعدة البيانات عبر الإنترنت). اعتمد مجلس الإدارة الهيئة الاستشاريَّة الفنيَّة من خُبراء سُودانيين مرموقين، كلٌ منهم على دراية في واحدٍ على الأقل من المجالات التالية: الزراعة، التعليم وتنمية الموارد البشريَّة، البيئة، الجندر، العلوم الإنسانيَّة، الصناعة، العلوم، سياسات العلوم والتكنولوجيا، والعلوم الاجتماعيَّة. ضمَّت قائمة الخُبراء المُرشَّحين: د. عبدالعزيز عثمان، بروفيسور عبدالغفار محمد أحمد، د. أكولدا مانتير، بروفيسور على عبدالقادر علي، بروفيسور علي محمد الحسن، د. أنور علي حسن، بروفيسور عاصم مغربي، بروفيسور الطيب زين العابدين، بروفيسور محمد عثمان السمَّاني، بروفيسور عثمان فضل، د. بول واني قور، د. زينب بشير البكري.
بعد كل هذه الجهود، وقف التمويل عائقاً في طريق إكمال المشروع وانطلاق نشاطات “سيرو”، كان اجتماع مجلس الإدراة الذي أشرتُ إليه أعلاه هُو الأوَّل والأخير. وقد علمتُ من صلاح أن منصور كان يُعوِّل على مساهمة في التمويل من السيد محمَّد فتحي إبراهيم، الذي أيَّد الفكرة ولكنه أعرب عن عدم رغبته في التمويل. وأيضاً، كان من ضمن المُموِّلين المُتوقعين السيد نوح سمارة، الذي حالت مشاكله المالية دون مشاركته في المشروع، فأضحى السيِّد صلاح إدريس هو المُموِّل الوحيد، والذي بدوره لم تُسعفه ظُرُوفه الخاصة لمواصلة التمويل. وهكذا أُسْدِل الستار على مشروع “سيرو” بنهاية سبتمبر 2002، وغادر د. صلاح القاهرة. ومع ذلك، فقد قام المدير التنفيذي، د، صلاح، فيما يتعلق بقاعدة المعلومات، بالاتصال بدار الوثائق القوميَّة (بروفيسور أبوسليم) وجهاز الإحصاء ووزارات المالية والتخطيط والتجارة، ولكن عدم توفر التمويل أوقف العمل في هذا الصَّدَد. كما قام مكتب “سيرو”، بتمويلٍ خاص من د. فرانسيس دينق، بإجراء مسح اجتماعي عن السُّودانيين المُقيمين في القاهرة. وكان د. صلاح قد أعدَّ عدد من البرامج البحثيَّة المتعلقة بمشاريع لفترة ما بعد الحرب الأهليَّة، بغرض دعم الاستقرار والتنمية المحليَّة في الجنوب، وفي النيل الأزرق وجبال النوبة بالإضافة لمنطقة أبيي، كحزام انتقالي. وللمُفارقة، التقط د. فرنسيس فكرة مشروع أبيي وكان خلف تبني برنامج الأمم المتحدة الإنمائي له وتمَّ التمويل والتطبيق، ولكن دون ذكر لدور “‏سيرو”.
وبالرغم من مرور أكثر من عقدين على فكرة منصور عن مثل هذا المركز للمعلومات والبحوث، يهدف إحداث تأثير على السياسات العامَّة، إلا أنه ما زالت حيَّة. فإن أحد مشاكلنا في إدارة الدَّولة كان، وما يزال، هو غياب مراكز المعلومات. يشهد العالم اليوم تطوراً كبيراً في مجال العلم والمعرفة نتيجة الثورة المعلوماتيَّة في كافة المجالات، ويتخذ البحث العلمي دوراً مهماً ومؤثراً في تلك المجالات، كونه الأداة الأساسية في توليد المعرفة، وتطويرها وتسخيرها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للشُعُوب. ولا يمكن للبحث العلمي أن يُؤدي دوره هذا من غير أن نوفر متطلبات انجازه بنجاح، وأبرز تلك المتطلبات هي الدعم والتمويل. وفي ضوء ذلك يلعب القطاع الخاص في الدول المتقدمة دوراً مهماً في دعم البحث العلمي بتمويل يزيد على ما تخصِّصه الحكومات نتيجة الرِّبح وفرص الاستثمار الذي حصلت عليه من نتائج البحوث العلميَّة، وبخاصة في مجال تقنيات المعلومات، فالقطاع الخاص في تلك البلدان يرى في الإنفاق على البحث العلمي ضرورة لتحقيق النجاح واستمراره. أمَّا نحن، فنواجه فجوة بين القطاع الخاص والبحث العلمي وضعف الشراكة بينهما، سواءً كان ذلك في مجال استراتيجيات البحث العلمي أو المُساهمة في تمويل الأبحاث او مراكز التنسيق بين مُؤسَّسات البحث العلمي والقطاع الخاص .
يختلف مشروع المركز عن جُملة المحاولات التي خطط لها وتلك التي وجدت طريقها للتنفيذ، بأنه تأسَّس علي رُؤية واضحة واستند علي أهدافٍ مُحدَّدة، حتى إذا قارنته بالمراكز التي أسَّستها الدولة لا سيَّما في العُقُود الأخيرة. فرغم التحديث الذي جري لدار الوثائق المركزية، فما تزال تحتاج للكثير حتي تواكب التقدُّم التكنولوجي المُتصل في تقنيات الحفظ والتوثيق والبحث، وإذ أنَّ خزانة الوثائق مهما يكن مضمونها تختلف عن مراكز المعلومات التي كان “سيرو” يطمح وفق ما خطط له للوفاء بها. فقد تأسَّس في عهد الإنقاذ الأوَّل عام 1992 مركز الدراسات الإستراتيجيَّة وحاول تطوير وحدة المعلومات لتوافي أغراضه في الحُكم، فمزيدٌ من المعلومات يعني مزيدٌ من السيطرة. ومع ذلك، أخفق في تحقيق حتى أهدافه الخاصة عبر إداراته المتعاقبة حتى سقوط النظام، رغم ما حُشد له من امكاناتٍ الدولة، وتحوَّل في عهد الإدارة الأخيرة التي امتدَّت لعقدين إلى مشروع خاص. كما ينطبق الأمر بحذافيره علي مشروع معهد حضارة السُّودان، وربَّما في مفارقة أكبر لأنَّ الأخير كان منوطٌ به حفظ كُلَّ ما هو موصولٌ بالحضارة السُّودانيَّة منذ أقدم ممالكها إلى اليوم، واستكشاف مظان الآثار والوثائق والمخطوطات. يؤكد كل ذلك وواقع الحال الحاجة الي إحياء مشروع وحدة المعلومات والبحوث السُّودانيَّة، ربَّما بإلحاحٍ أشدَّ ممَّا كان في أخريات القرن الماضي، خاصة في ظِلِّ أوضاع انتقاليَّة مضطربة. فالسُّودان بعد ثورة ديسمبر يُطلُّ علي فجرٍ جديد يحتاج للبحث والعلم ويضعهُما في قمَّة الأولويات، فمزيدٌ من المعلومات هو مزيدٌ من المعرفة، ومزيدٌ من المعرفة يعني مزيدٌ من التقدُّم والازدهار، وتماسُك عُرى الوحدة السُّودانيَّة والهُويَّة السُّودانويَّة الجامعة، كما ورد في أهداف المشروع الذي لم يُقدَّر له أن يتم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.