زمرة “ترزية القوانين”!
كتب: د. خالد التيجاني النور
.
(1)
تثير حمى التشريع التي انتابت فجأة مجلسي السيادة والوزراء هذه الأيام إلى درجة تمرير العشرات من القوانين في فترة وجيزة، الكثير من التساؤلات عن السياق التي تجري فيها، وعن دوافعها، ومن يقف وراءها ولماذا؟ وما الذي يجعلها تبدو ملّحة في هذا التوقيت بالذات؟.
بالطبع لا خلاف أن هناك حاجة حقيقية للإصلاح القانوني كشأن سائر المجالات الحيوية التي تحتاج إلى مراجعات تختلف في أولوياتها لتتواءم مع استحقاقات المرحلة، ولكن مع ذلك لا يمكن أن تتم على هذا النحو الاعتباطي الذي تحولت فيها وزارة العدل إلى مفرخة لقوانين بالجملة، وليست تلك هي المشكلة الوحيدة، بل في كونه أصبح في باب الاعتياد أن تطبخ بليل بواسطة لجان خفية مهمتها “تفصيل قوانين” على مقاس أجندة مجهولة للرأي العام المغيّب تماماً عن ما يجري في كواليس وزارة العدل، وعن الجهة التي تقف وراء كل هذا النشاط الزائد في تفريخ قوانين بكل هذه العجلة غير المبررة.
(2)
قضت هياكل الفترة الانتقالية، مجلسي السيادة والوزراء، المنقوصة المشروعية مع التغييب المتعمّد للمجلس التشريعي المنعقد له الاختصاص، فترة كافية تمكنها من إنجاز الكثير من استحقاقات الفترة الانتقالية الأثر أولوية التي سجلت فيها فشلاً ذريعًا لم يعد محل جدال، لذلك لا يمكن النظر ببراءة لها الاستعجال المفاجئ بتمرير قوانين هكذا ب”بالكوم” على طريقة “حلّة العزابة الشهيرة بالقطر قام”، فهل يُعقل أن يجيز المجلسان في جلسة واحدة خمسة قوانين دفعة واحدة؟!! من المؤكد أن ذلك يجعلها سابقة تستحق أن تدرج في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، الطريف في الأمر الحرص هذه المرة على الإعلان عن تمرير هذه القوانين تحت لافتة “المجلس التشريعي المؤقت” الذي اتخذ للمرة الأولى عنوانا رسمياً للاجتماع المشترك للمجلسين، وبالطبع لا تعدو أن تكون هذه محاولة أخرى مكشوفة لسد الطريق على تشكيل المجلس الموؤود مع سبق الإصرار والانتهاك الصريح للوثيقة الدستورية من قبل الطبقة الحاكمة الجديدة التي لا تريد شريكا لها ولا رقيباً عليها.
فأي مجلس تشريعي مهما كان صورياً لا يمكن أن يلجأ إلى هذا القدر من الاستخفاف بإصدار تشريعات بالجملة منزوعة الشرعية الدستورية، إذ لا مبرر بتاتاً لعرقلة قيام المجلس واختطاف دوره، كما أنها معزولة من القاعدة الشعبية صاحبة المشروعية الوحيدة التي أصبحت نسياً منسياً في أجندة الطبقة الحاكمة.
(3)
كان الظن أن السيد وزير العدل، الذي سبقه ترويج كبير لكفاءته، سيسهم في ترسيخ حكم القانون وسيادته، وأن السمعة التي أحاطت بدراسته الأمريكية ستكون خير معين له في تأسيس دولة القانون مستلهماً الخبرة والتجربة العريقة لتلك البلاد في الفصل بين السلطات، واحترام الدستور، وسيادة القانون، ولكنه للأسف آثر أن يمضي في الطريق المعاكس، حتى بات محل تندر المعلقين في الوسائط الاجتماعية الذين ذهبوا لحد المقارنة بينه وبين خبراء تفصيل القوانين في النظام السابق، فأي منقصة أن يًنظر إلى وزير عدل في فترة انتقالية مهمتها وضع لبنات للتحول الديمقراطي، إلى ممارس للأسلوب نفسه لبعض أسلافه في الأنظمة الشمولية التي تعهد لمن يعرفون بـ”ترزية القوانين” لتفصيل ما يلائم أجندتها في فرض إراداتها على الشعب، واستخدامها وسيلة للسيطرة والقمع، ودونكم مشروع قانون جهاز الأمن الداخلي الذي تسربت مسودته لتكشف عن توجه شمولي بامتياز للطبقة المتحكمة الجديدة، وأقر وزير العدل نفسه بصحة هذه الوثيقة وإن ساق تبريرات لتوضيحات زادت الطين بلة بعد أن كشفت المستور.
(4)
أعجب ما في حزمة القوانين هذه أنها تجمع بين متناقضات، أو تخدم ظاهرياً أجندة تبدو كذلك، ولكنها بالنتيجة تقود لهدف واحد وهو إعادة إنتاج نظام شمولى آخر في السودان تحت سمع وبصر المجتمع الدولي الذي يضغط على الحكومة لإصدار قوانين بعينها لخدمة أجندة تزعم عواصم القرار الدولي أنها ضرورية لإعادة تسويق السودان خارجياً، وفي الوقت نفسه تغض هذه القوى الخارجية الطرف، رغم دعاوى دعم التحول الديمقراطي، عن “سلق” هذه القوانين بلا أي مرجعية شعبية، ولا ترى بأساً في انتهاك الطبقة الحاكمة الجديدة للوثيقة الدستورية، كما أنها في إطار المساومة لا تمانع في تمرير قوانين مثل مشروع قانون الأمن الداخلي لتشديد القبضة الشمولية للنظام الانتقالي، فالمهم بالنسبة لها من يخدم مصالحها، وليس مصالح الشعب السوداني ولا طلبه للحرية والديمقراطية.
(5)
ويا وزير العدل، دعك من هذه الترسانة من القوانين التي لا تخدم مصالح الشعب، ولن يكتب لها الصمود، ليتك تهتم بإصدار القانون المفقود حقاً “قانون احترام القانون” وعلى رأسها الدستور القانون الأسمى، الذي تمارسه السلطات الانتقالية دون أن يرف لها جفن، تذكّر أن كرسي الوزارة لن يدوم لك، كما لم يدم لغيرك، فأحرص ألا تكتب في زمرة”ترزية القوانين”.