سند قعاد في لندن

0 72
كتب: جعفر عباس
.
في أول مرة تلحق بي في الاغتراب في أرامكو السعودية كان كل شيء تحاول أم الجعافر طبخه يتحول الى عصيدة، وإذا حاولت صنع عصيدة تطلع شوربة، فأرسلتها في بعثة دراسية الى أمها، حيث نالت كورس طبخ، وبعد فترة قصيرة تفوقت على أمها وصارت أستاذة في طبخ كل شيء ما عدا “المرس والويكاب وأب غازي والكداد”، وكلما ارادت توفير فساتين لبنتينا كانت تذهب الى أرقى المتاجر وتقلب ما هو معروض وتخرج، لتعرج على دكان اقمشة لتشتري ما تشاء وتجلس وتفصل للبنتين فساتين بنفس الشكل الذي رأته في تلك المتاجر، فقد كانت موهوبة في تفصيل ملابس البنات الصغيرات، وذات مرة في لندن ذهبت الى حلاق يوناني لا يعرف الإنجليزية وخرجت منه وشعري مقصوص “مارينز” وقضيت شهرا وانا اضع على رأس قبعة “سيف الجامعة” لإخفاء قصة الشعر السخيفة، وبعدها صارت ام الجعافر حلاقي الخاص، ومن أول تجربة أثبتت انها “أسطى”، ثم تمردت على تلك المهنة دهرا طويلا، ولكنها صارت حنينة في ظروف الكورونا وطوال السنة الماضية تولت مع ولدي لؤي قص شعر رأسي، مما خفف ميزانية الحلاقة، وسيساعدني على “تكوين النفس”.
في وود قرين كنا نجد مختلف أنواع الخضروات ما عدا الرجلة ولكن زوجتي كانت تطبخ السبانخ بطريقة الرجلة (مع العدس والشمار الأخضر/ الشبت) بكفاءة عالية، وهناك أيضا متاجر تركية تبيع الطحنية وأنا أموت في الطحنية (خصوصا انتاج حلويات سعد السودانية)، اندمج عيالي مع نمط الحياة المدرسية في لندن وفي بادئ الأمر أجبرتهم على التخاطب بالإنجليزية داخل البيت وقراءة بعض الصحف الإنجليزية الرصينة، ثم صرت أنط في حلق أي واحد منهم يتكلم بالإنجليزية في البيت ولكن هيهات، فلغة تلقوا بها التعليم طوال 17 سنة تصبح الأسهل على ألسنتهم، وما زالوا يفضلون التخاطب بها مع بعضهم البعض، رغم أنهم يجيدون العربية إجادة عالية (ما عدا لغة الجفلن خلهن اقرع الواقفات)، وصاروا وما زالوا من كبار مشجعي مانشستر يونايتد واجبروني على اصطحابهم الى ملعب يونايتد (أولد ترافورد) في مانشستر.
المكسب الأكبر الذي خرجت به من تجربة لندن ليس فقط العمل في تلفزيون بي بي سي بل إن مطبوعات عربية تصدر من لندن منحتني فرصة الكتابة فيها، وبدأت بمجلة المشاهد ثم صحيفة القدس ثم مجلة “المجلة” ومن ديك وعيك: صرت معروفا لدى الجاليات العربية في أوربا قبل ان يعرفني السودانيون، وبعدها انفتحت أمامي مسالك صحف الخليج والجزيرة العربية، وسمع بي أصحاب الصحف السودانية عبر قرائي في السعودية وقطر والبحرين، أما عيالي فقد تعلموا في بريطانيا المكابسة والمدافرة والمعافرة، ومثلا أكبرهم غسان كان مكلفا لبعض الوقت للتفرغ لاكتساب خبرة عملية ووجد وظيفة مرموقة في محلات “ويت روز” العملاقة حيث كان مكلفا بإعادة عربات التسوق من موقف السيارات، ثم نال ترقية وكلفوه بمتابعة رفوف مأكولات القطط والكلاب والطيور، وعندما ذهب الى نيوزيلندا عمل في محل سندويتشات ماكدونالدس واستقال بعد 24 ساعة لأن الحر في المحل “لا يطاق”، ثم عمل في شركة كمبيوتر قسم اسناد العملاء، وكل ذلك ليوفر لنفسه بعض لوازم الإعاشة.
*سندباد عندما تكون متجولا اما عندما تكون مقيما فتصبح “سند-قعاد”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.