صحة القول في الزمان المريض: حقنة وسجم

0 66
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
1-حقنة كمال عبيد التي سار بذكرها الركبان
يأخذ على بعض زملائي من الصحافيين الإسلاميين غلظتي معهم في التحقق مما ينشرون من أخبار الثورة. وظنوا إلحاحي عليهم أن يرسموا الخط الفاصل بين الصحافة، التي تفلفل الخبر، والناشطية الدرك التي تتكسب منه لخطها المسبق، بأمر جد عليّ. وقالوا إنني “تغيرت” وحملني حسن ظني بالثورة محملاً لا يرضونه لمن عرفوا عنه “التعقل”. وبدا لي أنهم لما طاب لهم “تعقلي” غضوا النظر عن المعارضين لهم الذين كانوا يروني شططت مع الإنقاذ، بل “بعتهم” بدولاراتها. فقد ظللت أدعو الناشطية المعارضة للإنقاذ لنفس ما أدعو الناشطية المعارضة للثورة اليوم: للصحفي رأيه لكن الحقائق ليست ملكاً له. بل دعوت حتى ناشطيهم أن يتحروا الحقيقة ويتركوا الفبركة. فمن كانت الإنقاذ خصمه ما احتاج لإعمال الخيال في تربصها. فالحقيقة منجية. ودامغة. وشعبنا حقاني فلا تفسدوا شغفه بها وذوقه له.
وأضرب هنا مثلاً لانزعاجي لتبذل المعارضة بالحقيقة بما أثارته صحافتهم حول “حقنة كمال عبيد” الشهيرة. وتوافر لي أن اتحقق من صحة ما أشيع من أنه قال إنهم لن يحقنوا الجنوبي المريض مطلقاً. ووجدت القول بعد التحري موضوعاً إي مكذوباً. وكتبت أنقض غزل الذائعة لأنني لا أريد لمعارض الانتحال وسيلة تبرر الغاية. ومتى ارتكب هذا الطريق كتب عنذ الله كذاباً إلى يوم يبعثون. المعارضة عندي نبل لأنها ما سنكون عليه. ومتى ساء خلالها خلقك انتحر الأمل.
وأعيد نشر مقال الحقنة لمن عتبوا عليّ من الزملاء الإسلاميين ليعرفوا أن الذي تغير ربما هم لا أنا. إلى المقال:
عرضت يوماً على منبر جريدة الصحافة مفهومي عن الهرج. وقلت إنه حالة تعطل فيها صفوة البرجوازية الصغيرة الفصيحة المعايير لأن الهرج هو ماؤها العكر للصيد. قل لهم إن هناك فساد في الجنوب مثلاً فيقولون ولكن هناك فساد في الشمال. وكأن الفساد مما يبطل استنكاره متى عمّ البلاد بشقيها. وللجماعة في الهرج حياة. وقلت في المنبر إن الذي يُلجيء البرجوازية الصغيرة للهرج أنها تغربت عن أهلها بفضل نظام التعليم الغربي الذي خضعت له، ولم تسترد نفسها منه بعد. وألغت الشعب في حمى غربتها وأصبحت في ” روحها العزيزة”.
عشنا في الأسابيع الماضية حالة من الهرج حتى بغير أن ندري. فقد طفحت وسائط الإعلام بتصريحين لوزراء من المؤتمر الوطني ثم اتضح أن كَلِمهما محرف عن موضعه. فقد كشف علاء الدين يوسف أن تصريح “الحقنة” لوزير الإعلام كمال عبيد داخله سوء نقل. واتهم جريدة “أجراس الحرية” بأنها من وراء ذلك لقولها إن الوزير صرح بأنه “لن يكون الجنوبي في الشمال مواطناً ولن يتمتع بحق المواطنة والوظيفة والامتيازات ولا حق البيع والشراء في سوق الخرطوم ولن نعطيه حقنة في المستشفى”. وجاء علاء بتسجيل كلمة الوزير فإذا به قد قال إنه إذا انفصل الجنوب فالجنوبي لن يكون مواطناً في الشمال : “ولا ح يتمتع بأي امتيازات . . . هم ما مواطنين ما عندهم حق الحقنة في المستشفى ولا عندهم حق المقعد في المدرسة ولا عندهم حق الوظيفة في المؤسسة العسكرية والمدنية ولا عندهم حق البيع والشراء في أسواق الخرطوم”.
سيقول لك عتاة المهرجين إنه لا فرق بين العبارتين. حقنة حقنة والبادي أظلم. وهذا أول تفريط في المعيارية. فمن حق المرء أن يرى تشابه العبارتين ولكن ليس قبل صحة النقل وإقامة الدليل بالتحليل. وهذه الأمانة في ذمة الناقل.
قال شكسبير إن للشر نهجاً وكذلك للهرج. فما أخرج علاء لضبط نقل كلمة الوزير ليس نبلاً مهنياً قيماً. بل أراد إحراج جريدة “أجراس الحرية” المائلة للحركة الشعبية. فأوسعها تعريضاً ووصف مهنيتها ب”الفضيحة” وتداعى أنصاره على سودانيزأونلاين ما تركوا للأجراس جنباً ترقد عليه. ثم انقلب السحر على الساحر. فخرج عليهم دنق قوك، كاتب العمود الراتب بالأجراس، وكشف صغائر علاء ورهطه من الحملة على جريدته. فقال لهم إن الأجراس لم تنقل خبر كمال بالمرة. وكل علاقتها به أنه نشر عموده فيها (29-9-2010) معلقاً على “حقنة” الوزير. وطلب من علاء تبرئة الأجراس قبل كل حساب. ثم كانت المفاجأة اعتراف دنق بأنه أخذ عبارة الوزير سيئة النقل من جريدة الرأي العام (25-9-2010) المحسوبة على الحكومة والتي لا ترقى الظنون إلى ولائها لها. ولم يتحسب علاء لذلك. فحبل الهرج قصير أيضاً.
لم يكن للأقلام المعارضة للإنقاذ شغل غير “التريقة” على “حقنة” الوزير على مدى الأسابيع الماضية. وكردة فعل نشأ بين مؤيدي المؤتمر الوطني والمتعاطفين “تريقة” مضادة عن “جالون بنزين” قيادي الحركة مارتن ماجوك. فقد نُسِب إليه إنه قال إنهم، متى انفصلوا، فلن يعطوا الشمال جالون بنزين واحد. ولا ندري إن قالها، أو إن قالها بنفس الصيغة أو لم يفعل. وبلغ الهرج بحقنة الوزير من القوة أن تعهد الرئيس بحماية الجنوبيين في الشمال تلافياً لمفعول تصريح وزيره المحرف. وتواترت التصاريح من الجنوب عن التزامهم بحماية الشماليين في الجنوب بنبل مزعج.
وسنتطرق لهرج آخر حول قول الوزير كرتي المزعوم عن سجم زعماء المعارضة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.