طفولة كلها حركة وبركة

0 48
كتب: جعفر عباس
.
كان علينا عهد الطفولة ابتكار تلك الألعاب، فنصنع السيارات والهواتف من علب الصلصة الصغيرة وكانت البنات يصنعن العرائس (وتسمى في المدن بت ام لعاب) من الملابس القديمة، ومن هذه الملابس وأكياس المخدات كان أهلنا يصنعون لنا الحقيبة المدرسية التي كان اسمها “الخرتاية”، وكانت جميع ألعابنا جماعية ومسائية وتتطلب جهدا جسمانيا وبعدها يعود الواحد منا الى البيت منهكا وينام كلوح خشبي بعد تناول العشاء الذي يكون “بواقي “وجبة الغداء، والمهم اننا كنا نتناول ثلاث وجبات كاملة، وكنا في الأيام الاستثنائية التي نتناول فيها طبق “الدمعة” باللحم لا نغسل أيدينا حتى يشمها أقراننا ويموتوا كمدا وحسدا
كان الواحد منا مطالبا منذ بلوغ العاشرة بتوفير العلف للبهائم بأن تنزل الى المزارع مسلحا بالمنجل او بان ترعى الغنم، وكانت لكل بيت حظيرة فيها بعض الأغنام لزوم اللبن، وكانت لأمي بضع دجاجات ولكنها لم تكن تذبح دجاجة الا بعد ان “تقطع” وتتوقف عن الارسال (البيض) او يصبح الديك عاجزا عن الحركة، ولوك لحم مثل هذا الصنف من الدجاج يحتاج الى فك ملاكم ومع هذا كان المحظوظ من الأطفال يحظى بجناح منها او رقبة
كانت ممارسة سرقة البطيخ والذرة الشامية متفشية، فننزل الى الجروف والمزارع في منتصف النهار عندما يرغم الحر المزارعين الى العودة الى منازلهم، وكان بعضنا من اللؤم بحيث “يفتحون” البطيخة وهي في فرعها ليذوقوا طعمها ثم يقرروا سرقتها ام لا، وهكذا كانت كميات كبيرة من البطيخ تتعرض للتلف، أما إذا تم ضبط اللصوص الصغار فقد كانت العقوبة بضع شتائم و…بس.
وكنا أثناء رعي الغنم نعد وجبة شهية: هذا يأتي بحلة وذاك بسكر وغيره بالدقيق فنحلب من كل مع معزة مقدارا قليلا من اللبن ونصنع مديدة “روعة”، وكان الكبريت عملة صعبة وكان بكل بيت موطن لنار لا تنطفئ على مر الأيام وإذا حدث وانطفأت يتم ارسال طفل الى بيت الجيران لمهمة اسمها “إيقكا مر” وتعني حرفيا ان “تقطع النار” ويكون ذلك عادة إما بأن تأخذ لسان نار بعود خشبي رفيع او ببعر حمار جاف وبعر الحمار بيضاوي ويتألف من أعشاب مهضومة تساعد على امتصاص النار، ويغرس الواحد منا البعرة في النار ثم ما ان تشتعل حتى يواصل النفخ فيها الى ان يوصلها الى البيت
وكان بعر البهائم يستخدم كوقود لصاج اعداد الكسرة اما بعر الجمال فيكون في حجم وشكل بيضة الحمام وكنا نستخدم الجاف منه في لعبة اسمها “تور” أما بعر البقر فقد كان المضاد الحيوي ففور ختان الأولاد كانوا يصبون على الجرح عصارة أوراق اللوبيا لوقف النزيف، وفي الأيام التالية يتم حرق بعر/ روث البقر الجاف ونثر الرماد على الجرح منعا للالتهابات (ثم يقولون ان الكسندر فليمينغ اكتشف البنسلين من “العفن”)
كان الجميع في بدين مستوري الحال ومن عنده فائض من شيء يعطيه للآخرين، ومثلا لم يكن هناك من يشتري الخضروات لأنه كان من حق أي امرأة تمر بملوخية او بامية مزروعة ان تقطف قدر حاجتها دون الحاجة الى إذن بذلك، وعلى كل حال فاللغة النوبية خالية من عبارات مثل: بعد إذنك/ لو سمحت/ من فضلك؛ وحتى شكرا تقال بالعربية وذلك باعتبار ان التكليف مرفوع بين الجميع وإذنك معاك ولو عملت شيئا لمصلحة آخر فهو واجب، ولا شكر على واجب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.