عبد العزيز المبارك: رحيل ذاكرة نغمية شجية التطريب

0 61

بقلم : صلاح شعيب

كان عبد العزيز المبارك يواسي الأجيال التي شبت على غنائه عاطفياً، وجمالياً، ويحبس ذائقتنا في غنائه المشحون بالإيقاعات الحارة الشجية النغمات. ومنذ ظهوره الأول في النصف الأول من السبعينات كنا نسمعه حتى إن دارت الأيام شكل نغمه أرضية لاستيعابنا الغناء الجيد. ورغم توفر ذائقات نغمية تعرفنا عليها بعده سوى أن ارتباطنا بغنائه استمر، وإن توقف عن التجديد بسبب العلة التي سببت ضعف صوته. ولا بد أن غياب تأثيره المتجدد في المشهد الفني خلق في داخل الفنان الرهيف الحس أسىً كبيراً.
ما يميز شخص عبد العزيز مثابرته في تنمية أعماله، وحلو معشره مع كل زملائه، وتهذيبه العالي، وهندامه الجميل، ووسامته الفائقة. ودأبه كذلك أنجز – حين التحق في غربته بمؤسسة فرسان السعودية مديراً فنياً – عدداً من الألبومات لزملائه ذات مقدرات تسجيلية عالية. وقد تزامنت تلك التجربة مع إنتاج شركة حصاد، وشكلت منفذاً بعد أن حورب الغناء، والمغنين. على أن تلك الغربة خصمت من رصيد فناننا الشجي التطريب. بل إن الغربة، والتي أثرت على عدد من زملائه المطربين أمثال محمد سلام، وفتحي حسين، وهاشم ميرغني، وزكي عبد الكريم، والتاج مكي، جعلتهم بعيدين عن دائرة التجديد لأعمالهم الأولى المميزة.
وحين عاد عبد العزيز وجد اختلاط الحابل بالنابل في المشهد الفني قد أصبح موغلاً في العمق. فمن ناحية انعدمت المعايير في الغناء، وانتهى الضبط الفني الذي خبره في السبعينات، وطرفاً من الثمانينات. والحال هكذا وجد جمهوراً جديداً ليس هو جمهوره الذي كان يهيم به شخصاً، وفناً. وشكل هذا الواقع الجديد انزواءه بجانب عدد من زملائه المجايلين. فإذا كان هو نجم السبعينات والثمانينات في حفلات الأعراس، منافسا لعدد من الذين سبقوه بفترة قليلة مثل محمد ميرغني وزيدان، فإنه غدا بلا حضور في هذه المحافل المشجعة للفن. وما من شك أن هذه التغيرات المجتمعية التي حدثت في الثلاثين عاما الماضية قلبت العملية الفنية رأسا على عقب. فمن ناحية ما عاد هناك تنافس في الكلمة الرقيقة واللحن الشجي مثلما يحدث في كل فترات المغنين السابقة. فالتقليد صار سمة أساسية حتى على مستوى الفضائيات الناشئة التي ورثت دور الإذاعة والتلفزيون بينما ما عادت “هنا أمدرمان” نفسها بفرقتها الماسية تجدد باستمرار في أعمال الفنانين. إذ تخلصت منها الدولة، وسُرِح جيل العازفين الماهرين، وما عادت الإذاعة، وكذلك التلفزيون، المنفذين الوحيدين للإنتاج الفني. وفي هذا الأثناء كان عبد العزيز المبارك يعاني الأمرين: خفوت تأثير مغني جيله، وضمور صوته، وهجرة الشباب الذين هاموا به. وما أقسى فقدان المغني صوته، وابتعاده عن الصيت، وشح التواصل مع جمهوره!
-٢-
لا تذكر تجربة عبد العزيز المبارك إلا وكان هناك فنانون مؤثرون ساهموا فيها. فقريبه الملحن والعازف أحمد المبارك لعب دورا أساسياً في ظهوره. وهو الذي قدمه للجمهور، ومن خلال علاقاته الواسعة بالملحنين سهل له الحصول على الأعمال الجيدة، كما أنه ساهم في تلحين بعض أعماله. وهناك عمر الشاعر الذي حقق له قفزة هائلة في ألحانه. فنصان جيدان مثل”يا عزنا” و”ما كنت عارف” كانا قد جعلا عبد العزيز المبارك يسيطر على اهتمام ذواقة الغناء بأدائه الطروب لهذا العمل المتكامل. كما أن ملحنا مجيداً مثل الفاتح كسلاوي كان قد أخذ بناصية الصوت المميز، ومنحه من أجود الاغنيات التي أنتجت في تلك الفترة: بتقولي لا. وهي من الأعمال التي سببت غيرة كبيرة لزيدان إبراهيم الذي كان يرى في عبد العزيز مهدداً لمملكته الغنائية.
ولعل الفنان زيدان كان يعتقد أن ارتباط كسلاوي وعمر الشاعر به يجعله أحق بامتلاك “ما كنت عازف”. ولكن على كل حال كان لتلك الغيرة الفنية المبررة مفعولها الساحر في التنافس الشريف بين زيدان وعبد العزيز. بل إنها جعلت زيدان يعود للتلحين ليخرج برائعة “صحي اتغيرت انت”، والتي حاول أن يسكب فيها كل قدراته اللحنية لتأكيد سيطرته على أعراس السبعينات، والثمانينات. بيد أن الحقيقة التي بدت أنه لولا هذه الغيرة الحادة التي كانت سمة وسط الفنانين المخضرمين لما استمتع الناس بهذه الأعمال الجميلة لزيدان وعبد العزيز، وغيرهما.
لم يكن الفنان الطيب عبد الله المعروف بإهدائه بعض ألحانه لزملائه الفنانين بعيداً عن التأثير في تجربة المبارك. والأمر سيان بالنسبة للملحن المتميز عبد اللطيف خضر. فمن أولى الأعمال كانت “طريق الشوق” الذي بذل الطيب عبدالله جهدا” لتناسب بدايات الفنان الجاد. أما ود الحاوي فقد منحه “أحلى جارة” وهي أيضاً من الأعمال المميزة التي دفعت اسم عبد العزيز المبارك إلى واجهة التلقي الغنائي.
-٣-
الاعتبار الكبير الذي يمكن أن نستشفه من هذه التجربة الغنائية التي امتدت لثلاثة عقود هو أن المحور الأساسي فيها الفنان نفسه. فعبد العزيز المبارك سيشكل حضوراً دائماً في ذاكرة الغناء السوداني لمثابرته في تشكيل بصمته الخاصة استناداً على جديته. ولولا هذه الجدية لما نعاه الناس بهذا الشكل الوافر من الحب، خصوصاً الأجيال التي نشأت لتتذوق الغناء فوجدته ملء السمع، والبصر، والفؤاد.
رهان عبد العزيز كان في اعتماده على تنويع تجاربه اللحنية. وفي هذا تمكن في أن يخطف أجمل زهرات الملحنين الماهرين. وكان الرهان الثاني هو تواضعه الذي كفل له تنمية قدرات تجربته باستمرار. فضلا عن ذلك أنه كان حريصا على صقل موهبته بالدرس. ولذلك التحق بمعهد الموسيقى والمسرح، وتمكن في الحصول على معارف موسيقية ساعدته في الأداء. على أنه لم يكتف بالصيت محلياً، وكانت له رغبات كثيفة لنشر أغنيتنا عبر العالم، ومنطقة القرن الأفريقية. وقد شارك في عدد من المهرجانات بجانب زملائه. بل امتدت جولاته إلى اليابان، والولايات المتحدة. وهناك بهر المستمعين بإيقاعاته الحارة، وأنغامه الشجية، واداءه الممتاز.
ما يمكن أن يستوعبه الملحنون، والمغنون الجدد، من تجربة فناننا الراحل هو أن خلود الفنان يتطلب جهداً، خارقاً لتشكيل بصمته. فالكيف قبل الكم. وعبد العزيز المبارك أعماله قليلة بالمقارنة مع بعض من زاملوه. ولكنها نوعية من حيث موضوعاتها، وبنائيتها، وإيقاعاتها. فجمال النصوص الشعرية موازٍ لجمال الألحان. وبعد كل هذا كان التنوع في أحاسيس الشعراء، والملحنين العارفين بأسرار العمل الفني الجيد، والذي يخلق الدهشة من الوهلة الاولى لدى المستمع، هو جواز المرور لمحبتنا لأعمال هذا الفنان الفذ، والذي يردد مغنو هذا الجيل أعماله بكثافة.
ربما ساهمت النوستالجيا نحو فترة السبعينات والثمانينات لجيلنا في رفع قدر عبد العزيز المبارك. ومع ذلك فإن تكامل العمل الفني في تجربته هي الأساس لهذا الحزن الذي لازم كثير من السودانيين بسبب رحيل احد المبدعين الذين شكلوا ذكرى طيبة لذلك الماضي، والذي حفل بالكثير من الجمال الفني، والاجتماعي، والقومي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.