عبد الكريم الكابلي: سلُّمٌ تعليميٌّ متكامل (2 – 4)

0 105

كتب: د. النور حمد

.

عندما أتحدث مودِّعا الكابلي، وقد دلف إلى برزخه البهي، راضيًا، مرضيًا، معززًا، مكرمًا، بإذن الله، لا أتحدث عنه كموضوعٍ، وكظاهرةٍ، وحسب، وإنما أتحدث عنه كشخصٍ كان له تأثيرٌ كبيرٌ عليَّ. لقد وسم عبد الكريم الكابلي جوانب عديدة من ذاتي، بميسمه. وكثيرًا ما تحول غلالات الغفلة، وما أكثر طبقاتها، بين المرء والرؤية الواضحة. فقد يعيش شخص ما؛ مفكرًا كان، أم أديبًا، أم موسيقيًا، في داخلك، ردحًا من الزمان، ويؤثر عليك تأثيرًا كبيرًا، ثم لا تعي كل ذلك، إلا بعد حين. أو تعيه، أحيانًا، في الفينة بعد الفينة، وعلى نحو يلفه الغموض. كنت كلما تقدمت بي السن، واستحصد وعيي، كَبُرَ الكابلي في نفسي. لقد أحببت في مجلَّد الغناء السوداني الضخم، كثيرًا من الفنانين، وكثيرًا من الأغنيات، لكن، لم يحتل أحدٌ في وجداني، المساحة التي احتلها عبد الكريم الكابلي. وكما جاء في الحديث النبوي، فإن “الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف”. وكما يقولون أيضا: “شبيه الشيء منجذبٌ إليه”. ولطالما أحسست أن بيني وبينه أخوةٌ روحية. ويدخل هذا، لديَّ، في باب كيمياء العلاقات الإنسانية، بمختلف شكولها؛ المباشر، منها، وغير المباشر. فمنذ طفولتي، كان عبد الكريم الكابلي صديقي العزيز، الذي لم ألتقيه. ولقد بقيت هذه الصداقة الغيبية، بيننا، إن صحت العبارة، وصح قبلها هذا التصور، والتكييف لعلاقتي به، لحوالي أربعين عاما. فأنا لم ألتقيه، في اللحم والدم، إلا في عام 2000 تقريبا. ورغم ذلك، ظل عائشًا في داخلي على الدوام. ولقد كان لقائي الأول به في مدينة أبو ظبي، التي كان في زيارة لها، وكنت في زيارة لها، في نفس الميقات، من مقر عملي، في الكويت، آنذاك. وقد قادني إلى مقر إقامته في أبو ظبي أحد الأصدقاء الذين كان على صلةٍ وثيقةٍ به.

كنت فرحا جدا بلقائه ورؤيته عيانا. كان يلبس جلبابا أبيضًا، كعادة السودانيين الغالبة، ولأنه كان في انتظار زيارتنا، فقد اعتمر عمامة أنيقةً، ملفوفةً بعناية وبأسلوب. وهذه واحدة من ضروب الكياسة، ومن علامات التمدن؛ أعني: تجنُّبُ لقاء الضيف في غير زيك البيتي. ذكرت له في تلك الجلسة أنني شاهدت الفيديو الذي وثق لزيارته لمنزل كبير الجمهوريين، الأستاذ، عبد اللطيف عمر في مدينة الثورة بأمدرمان. وأبديت له إعجابي بالقصيدة التي نظمها وتغنى بها في ذلك اللقاء، والتي سمعتها، حينها منه، لأول مرة في ذلك الفيديو. يقول مطلع القصيدة:

دوَّارةٌ شمسُ الضحى على مهلْ

في خطوِها المحسوبِ يندس الأجلْ

من غاب عنها راضيًا فهو البطلْ

وكنت حين سمعتها، وقد يكون هذا مجرد حدسٍ مني، لمحت فيها رمزيةً تشير إلى استشهاد الأستاذ محمود محمد طه. وذكرت له أنني استمعت الى كلمته القصيرة التي رد بها على الكلمة التي ألقاها، ترحيبًا بمقدمه، الأستاذ، عبد اللطيف عمر، في بداية ذلك اللقاء. قلت له أن مما شد انتباهي في مقدمته تلك، قوله أنه قرأ الأستاذ محمود. وأنه قد استخدم في معرض حديثه عن قراءته له تعبير: “وتجولت في رحاب عقله الفسيح”. قلت له إن تعبيره هذا لفت نظري. ودلَّني على تذوُّقِهِ، وعمق استيعابه لما قرأ. ابتسم، وأضاء وجه الوضيء أكثر، حين سمع مني تلك الإشارة. وبسبيلٍ من رد الجميل في رد الثناء، ذكر لي أنه شاهد لوحة “بورتريه” لوجه سيدة سودانية، رآها معلقة في إحدى الدور التي استضافته، قبل فترة، في مدينة مسقط. قال لي إنه أُعجب بها، وسأل عنها وعن راسمها، وعرف أنها لي. قلت له نعم، كان هذا قبل عقد من الزمان حين كنت أعمل مدرسًا في مسقط. شعرت أنه التقط اسمى، وقتها، حين سأل عن راسم اللوحة. وللكابلي ذاكرةٌ عجيبةٌ، وحضورٌ ذهنيٌّ مدهش، سأتحدث عنه لاحقا. لم يستمر لقاءنا لأكثر من نصف ساعة، فقد كنت في طريقي إلى المطار، في ذلك الصباح، لأعود إلى الكويت. عند وداعي له، أهداني بخط يده نسخة من شريط الكاسيت الذي كان قد أخرجه للتو، وحمل اسم “سعاد”. وحين هممت بالخروج للنزول من العمارة، أصر، بشده، أن ينزل معي. فعل ذلك بإصرار شديد، رغم محاولاتي الملحاحة لثنيه عن النزول. وظل يسير ويتحدث معي، وقد ابتعدنا عن العمارة، حتى وجدت سيارة الأجرة التي أقلتني إلى المطار.

غادرت أبو ظبي وأنا ممتلئ به أكثر من أي وقت مضى. فقد كانت صداقتي له، منذ طفولتي، صداقة نظرية، من طرفٍ واحد، فأصبحت، منذ تلك اللحظة، صداقةً عمليةً، دخلت حيز المُجَسَّد، كما أضحت صداقةً من طرفين. تكشفت لي في ذلك اللقاء العابر جوانب من شخصيته، عمقت حبي له وزادت من احترامي له. لقد أحسست به وأنا أتأمله وهو جالس قبالتي يتحدث، بصوته العميق، وتمهله اللافت، وهو ينتقى الكلمات، إضافةً إلى سكون جسده، واستقراره في اللحظة التي هو فيها، أنه إنسانٌ متصالحٌ مع ذاته، مُستغنٍ، في غير ما تعالي، أو أنفة، عما هو خارجه. وتساءلت في نفسي: ماذا يريد المرء أن يحقق في حياته أكثر من هذا؟ تصرمت عشرة أعوام لم التق به فيها. وحدث ثاني لقاءٍ لي به في أمدرمان، في منزل صديقه، الأخ الجمهوري، إبراهيم بركات، بحي الروضة في أمدرمان، في حوالي عام 2010. حضر ذلك اللقاء، أيضا، الفنان الكبير، شرحبيل أحمد. ولقد جاءا، خصيصًا، ليسمعا، في تلك الجلسة، بعضًا من إنشاد الجمهوريين.

مرةً أخرى، غبت عنه لخمس سنوات. وعدت لألتقيه، للمرة الثالثة، في عام 2015، في منزل الإعلامي، الأستاذ لقمان أحمد، في منطقة واشنطن الكبرى. وكان المقام قد استقر به وزوجه الفاضلة، الأستاذة عوضية الجزلي، منضمِّين إلى بقية الأسرة الكريمة، هناك. كان اللقاء احتفاءً من الأستاذ لقمان، وبعض وجوه الجالية السودانية، بالأستاذ، فيصل محمد صالح، الذي قدم إلى واشنطن لاستلام الجائزة الصحفية التي نالها. وصادف أن كنت حينها في زيارة قصيرة لواشنطن، قادما من الدوحة. في تلك الجلسة طلب مني بعض الأصدقاء أن أشارك بالغناء. فاخترت أغنيته العذبة التي صاغ كلماتها الشاعر عوض أحمد خليفة، “يا أغلى من عيني. ولعل الكابلي، وعدد ممن حضروا تلك الجلسة، قد فوجئوا بأنني أغني. عدت عقب تلك الزيارة القصيرة إلى الدوحة، وبعد عام عدت إلى واشنطن لأستقر أنا وأسرتي في منطقة واشنطن، لعامين متتاليين. في هذين العامين توطدت علاقتي به أكثر. وأصبحت أزوره في داره بصحبة صديقي، وصديقه، الأخ الجمهوري، الأستاذ، فايز عبد الرحمن عبد المجيد، الذي كان على صلةٍ وثيقة به. في تلك الزيارات، عرفت أن الاستماع للكابلي وهو يتحدث، ليس أقل إمتاعًا من الاستماع إليه وهو يغني.

توالت زياراتي له في السنتين اللتين أمضيتهما في واشنطن. وكان الصديق، فائز عبد الرحمن، يأخذني في ساعات النهار لزيارته في منزله. كان شديد الاحتفاء بزياراتنا تلك. وكان، بطبعه المتمدن، ينتظرنا في غرفة الاستقبال في كامل هندامه. لقد احتفظ الكابلي، رغم تقدم سنه، بذاكرة مدهشة. كان يحكي بتفاصيل غريبة عن زياراتٍ له، جرت في السبعينات والثمانينات، والتسعينات، لمدنٍ في غرب أوروبا، وفي كندا، وفي أمريكا، وفي الدول العربية، ويذكر الناس الذي أحاطوا به في تلك الزيارات بالاسم، وما قالوه في أحاديثهم. بل يذكر الكابلي تفاصيل السفر داخل السودان لإحياء الحفلات الغنائية. وكنت حين نخرج من بيته أقول لصديقي فائز: هذا الرجل يملك عقلاً جبارًا وذاكرةً غايةً في الغرابة. أقول ذلك وأشير إلى، إنني، على سبيل المثال، قد لا أذكر بعضًا مما جرى لي في العام الماضي، بمثل هذا الوضوح، الذي يذكر به الكابلي ناسًا وأحداثًا جرت له في الستينات، وما تلاها من عقود، بدقة عجيبة. تصور معي! تسمع منه أنه كان في ألمانيا في الثمانينات في منزل فلان الفلاني وأن العازف الفلاني، حين تحدثوا في الشأن الفلاني، قال كذا وكذا. كنت أستمتع بحديثه، فتستغرقني التفاصيل، ودقة الوصف، وسلاسة السرد، وتشويقه، وكأنني أقرأ رواية لماركيز، أو للورنس داريل.

 

كنت أحس أنه كان يجد فينا السودان الذي افتقده. وكنا نجد فيه السودان الذي افتقدناه. فالكابلي، ولا مشاحة في ذلك، هو السودان، بكل ما فيه، مجسَّدٌ، بكل مكنوناته، في شخصٍ فرد. لقد جسد الكابلي السودان روحًا، وقيمًا، ومعرفةً عريضة بتاريخه، وثقافته. ومن المدهش حقا أن الكابلي لم يبلغ في الدراسة الأكاديمية أكثر من إنهاء مدرسة التجارة الصغرى، التي مدتها سنتان، انخرط بعدهما في الخدمة المدنية، في الجهاز القضائي. لكن، رغم ذلك، امتلك حصيلةً من المعارف بالغة السعة، بالغة العمق. يتحدث الكابلي في الفلسفة، وفي الدين والروحانيات، وفي تاريخ الفنون، وفي الأدب، وفي التراث، بتمكِّن الدارس المختص، المتمكِّن. ولا تحس منه، ولا للحظةٍ واحدة، “فهلوة” المتقحِّم، الذي لا يعرف سوى شذراتٍ، مستلفاتٍ، يستعرض بهن. لكن، لا غرابة. فمن يتأمل تكوين الكابلي في كليته يجد فيه روافد شتى. فهو هجينٌ اختلط فيه السودان بأفغانستان. وهو سليل سواكن، وثغر السودان الآخر، بورتسودان. وللمدن الثغور خيوطها التي تشدها إلى ما وراء البحار. وذلك ما جعله ينهل من منابع اللحون اليمينة، ومن بيئة البجا، وجوارها الإريتري. أيضا، هو من القلابات، حيث التماس الثقافي مع أثيوبيا، ووراء ظهره هناك تمتد بادية البطانة الشاسعة، بنمط حياتها وبمساديرها. كان الكابلي ابن المدينة الصقيل، وفي ذات الوقت، كان ابن القرية، بل، وابن البادية القح.

(يتواصل)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.