عسير وأبها البهية

0 53
كتب: جعفر عباس
.
بدأت سنوات اغترابي عن الوطن بالعمل مترجما في شركة أرامكو في الظهران في السعودية، وعلى تطوافي بمدن في أربع قارات، لم أشهد مدينة تضاهي الظهران أناقة وقيافة ونظافة، ولكن العيش فيها لم يكن مريحا، رغم ما بها دور سينما ومكتبات ومسابح وشواطئ رملية، فقد كان الأمريكان وقتها هم الكل في الكل، وحتى السعوديون لم يكونوا يتمتعون فيها بأوضاع مريحة.
بدأت علاقتي ببقية أجزاء السعودية في أواخر تسعينات القرن الماضي عندما ظهرت صحيفة الوطن انطلاقا من ابها في أمارة عسير، حيث صار لي فيها زاوية منفرجة، وصرت بعدها ضيفا على الأندية الأدبية والثقافية في مختلف أر.جاء المملكة، وعشقت مدينة جدة التي لا تنام وتعلمت خلال زياراتي لها وكلما كنت مدعوا الى عشاء أن اتناول عشاء كاملا، قبل التوجه الى مكان الدعوة لأن ولائم جدة تبدأ بعد منتصف الليل (مطاعم الفول في جدة لا مثيل لها في السودان وفيها مطاعم تبيع القراصة وحتى التركين – الله يكرم السامعين).
ثم تمت دعوتي للمشاركة في العيد الأول للوطن، وفي رحلة جوية ليلية من جدة الى أبها كان قائد الطائرة “من أندنا” ودعاني الى الجلوس في قمرة القيادة، وكانت لحظات من الرعب والحمى، فقد كنت أحس بأن مقدمة الطائرة تخترق كتلة سوداء صلبة، وسألت الكابتن كيف تعرف انك في المسار الصحيح وطائرتك بلا كشافات أمامية؟ فالتفت نحوي ليجيب على سؤالي فصحت فيه: الله يخليك ركز على السواقة والبلاوي ال قدامك، وعندما بدأنا الهبوط نحو أبهاء صرت اردد الشهادتين وتلاوة ما تيسر من القران على روحي، ولكن كان ذلك بأسلوب “إنا أعطيناك في ليلة القدر” الذي وقع فيه إمام حلفاوي فصاح فيه المصلون: إساكا سكا صلحا تيوا؟ نصلح ليك أي واحدة فيهما”، فقد رأيت قمم الجبال بمحاذاة “قدوم” الطائرة، وأيقنت انني من الهالكين.
ثم وصلت أبها، ثم نزلت في وديان تهامة وصعدت جبالها ووقعت في غرامها: عجز الضباب بأن يمس رؤوسها/ فأفاض في أقدامها قبلاته/ فوجئت بالحور الحسان فأيقنت/ روحي بوصف الله في جناته.
لا توجد عبارات في أي قاموس تفي أبها حقها من الثناء والغزل فهي بقعة باركها الله وأنعم عليها كل الجمال والبهاء، بمصاحبة موسيقى تصويرية سماوية تأتي من البروق والرعود والبرد الأبيض ووشوشات المطر والنسيم، فالطقس في ابها ربيع دائم، وتجلس فوق قمة الجيل الأخضر وسط هالة من الضباب المنعش والسماء من فوقك صافية بينما السحاب من تحتك يجود على الأرض بمطر السخاء والرفاء، ومن ثم فلا غرابة في أن تنجب عسير خيرة شعراء السعودية رقة في العبارة وحلاوة في الديباجة.
وزرت أبها مرارا بعدها مع عائلتي وزرنا “رجال ألمع” ومتنزهات السودة والفرعاء ودلغان والحبلة والجرة ومتنزه السحاب والنماص وتنومة وأحد رفيدة، ووجدت قرية اسمها الشبارقة، وأدركت انها لحقت بالفشقة وحلايب خلال غفلات حكوماتنا المتعاقبة.
وهاكم الأديب الأريب أحمد عبد الله عسيري يشدو بأجمل الألحان: هذي عسير ظلال الحسن والألق/ وشمعة ترتوي من منبع الأفق/ تذوب من سحرها شطآن رابية/ تنساب في جدول أو في ندى الورق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.