عودة الاستبداد السياسي: حوار مع نعوم تشومسكي

0 94

 

حاوره س. ج. بوليكرونيو

سؤال: يتمتع أقوى زعماء العالم السلطويين اليوم من أمثال فلاديمير بوتين في روسيا، وفيكتور أوربان في المجر، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وبنيامين نتنياهو في إسرائيل، ودونالد ترمب في الولايات المتحدة -على سبيل المثال لا الحصر- بشعبية واسعة لدى الجماهير، وفي الواقع، وصل هؤلاء إلى السلطة عبر وسائل ديمقراطية. ما الذي يجري هنا إذن ؟ هل من خطب مع الديمقراطية اليوم؟

نعوم تشومسكي :
هناك أسباب محددة. ففي حالة الديمقراطيات الغربية -ترمب، وأوروبا الغربية- يكمن مشكل الديمقراطية في التراجع الذي تعرفه نظرا للهجمة المصاحبة التي تستهدف إمكانيات العيش الكريم، حيث سقط النظام السياسي بشكل متزايد في يد السلطة المركزة لقطاع المال في ظل الهجوم الليبرالي الجديد وصار أقل استجابة لحاجيات الإنسان. تلك هي النتائج الطبيعية لتركز الثروة في ظل الهجوم الليبرالي على التوجهات الاجتماعية الديمقراطية في العقود الأولى لما بعد الحرب. ينبغي التذكير بأن الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، كانا قد أطلقا العنان للقوى الديمقراطية الراديكالية في أجزاء كثيرة من العالم، وبالرغم من أن ردة فعل عالم الأعمال كانت سريعة (قانون تافت-هارتلي لعام 1947، على سبيل المثال)، فقد ظلت منحصرة إلى حين الاضطرابات الاقتصادية لفترة السبعينيات التي هيأت الظروف لاندلاع حرب طبقية حامية الوطيس.

ومن الجدير بالذكر أيضًا إقرار دوغ فريزر، رئيس اتحاد عمال قطاع صناعة السيارات سنة 1978 أن رجال الأعمال ” اختاروا شنّ حرب طبقية أحادية الجانب في هذه البلد، حرب على العمال والعاطلين والفقراء والأقليات، وصغار وكبار السن، وحتى جزء كبير من الطبقة المتوسطة، كما قاموا بنقض الميثاق الهش وغير المكتوب الموجود إبان فترة النمو والتقدم الاقتصادي والاجتماعي”. في الواقع، كانت الحرب الطبقية قائمة حتى قبل ذلك، في الأيام الأخيرة من سنوات النيوديل (The New Deal) (خلال فترة ما قبل الحرب، لكنها لم تكن من جانب واحد، حيث نشطت حركة عمالية قوية صارت هدفا لحرب طبقية محتدمة أحادية الجانب بنحو تزايدي خلال سنوات ما بعد الحرب.

في أوروبا، يتعالى صوت الهجمة على الديمقراطية بفعل المؤسسات اللا ديمقراطية للاتحاد الأوروبي. حيث يتم اتخاذ قرارات محورية من طرف ترويكا غير منتخبة متمثلة في المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، مدعومة ببنوك الشمال. لم يتبق الكثير للجماهير لتقوله، وهي تعي ذلك، وذاك سبب رئيسي في انهيار أحزاب الوسط التي حكمت تلك الدول منذ الحرب العالمية الثانية.

وفي تحقيق مفصل للغاية، يستعرض الخبيرالاقتصادي مارك ويسبروت، تقارير مشاورات صندوق النقد الدولي المنتظمة مع الحكومات الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. يكشف الباحث “نمطا ثابتا ومقلقا على نحو مميز”، حيث تم استغلال الأزمة المالية كفرصة لتمرير الاصلاحات النيوليبرالية، من تخفيض للإنفاق الحكومي على القطاع العام بدلًا من فرض زيادات ضريبية على الأغنياء، وخفض الخدمات والإعانات الاجتماعية، خفض الميزانية المخصصة للتغطية الصحية، وإضعاف سلطة المساومة الجماعية، وبشكل عام، السعي نحوخلق مجتمع يسوده الفقر واللامساواة، بمؤسسات عمالية ذات قدرة محدودة على المساومة، وأجور هزيلة، وخلق حكومات وشبكات أمان إجتماعي أضعف، إلى جانب تدابير أخرى تقلل من النمو وفرص الشغل.

يخلُص ويسبروت إلى أن “وثائق صندوق النقد الدولي تعد تفصيلا لأجندات صناع القرار بأوروبا، الذين تمكنوا من تحقيق جزء مهم منها على مدار السنوات الخمس الماضية”. الأجندات مألوفة في الولايات المتحدة، وفي الواقع حيثما امتدت رقعة الهجوم النيوليبرالي.

وفي إنجلترا، كان لأغلبية ثاتشر، وحزب العمال الجديد بزعامة بلير، متبوعين بالسياسات التقشفية للمحافظين آثار مشابهة. هذا وتعد الحركة التي يقودها كوربين رد فعلاً مشجعاً تعارضه بشدة المؤسسة الحزبية للعمال وكذلك الإعلام.

للحالات الاخرى سالفة الذكر بدورها ما يميزها.

يبدو أن بوتين يتمتع بشعبية حقيقية طوال فترة ولايته. وعلى ما يبدو، فسكان القرم يؤيدون الاستيلاء الروسي على الإقليم. بدت هناك إمكانية لإحداث تطور ديمقراطي اجتماعي في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وربما حتى إقامة علاقات دعم متبادل مع الديمقراطيات الاجتماعية بأوروبا. لكن سرعان ما تلاشت تلك الآمال نتيجة للآثار القاسية للإصلاحات الاقتصادية المدعومة من طرف الولايات المتحدة، التي دمرت الاقتصاد وأودت بحياة الملايين، فضلا عن أنها مهدت الطريق أمام فساد هائل استولت على إثره الأوليغارشية على أصول الدولة. نظرت الجماهير إلى بوتين كتصحيح للكارثة النيوليبرالية وللتراجع الروسي على الساحة الدولية. بوتين زعيم مستبد من دون شك، بل حتى وحشي، لكنه على ما يبدو يحظى بشعبية حقيقية.

في إسرائيل أيضًا يتمتع الائتلاف القومي-الديني اليميني بشعبية حقيقية. التهديد بالنسبة لنتنياهو آت في المقام الأول من حزبه اليميني. يختلف ذلك كثيرا عن الفترة التي احتلت فيها إسرائيل الأراضي الفلسطينية عام 1967، وسرعان ما وضعت برامجها الاستيطانية غير المشروعة . تم التنبؤ بالتغيير في وقت مبكر من قبل من فهموا الديناميات الطبيعية لسحق الشعوب تحت الآلة العسكرية الثقيلة. أحد المعلقين كان صريحا على نحو خاص، وهو الحكيم الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش، أدان هذا الأخير الاحتلال بشدة، ليس رأفة بالفلسطينيين، الذين أعرب بازدراء عن مصيرهم، بل خوفا من الأثر المرتقب لذلك على الإسرائيليين، الذين حذرهم من أن يصيروا ” نازيين يهوداً ” بسبب ممارستهم للقمع والتهجير.

الإشارات إلى الآن دراماتيكية، سواء على مستوى الفعل أو التشريعات، وسواء تعلق الأمر بالممارسات الإجرامية في الأراضي المحتلة أو وبالانتقال نحو عنصرية مستترة في الداخل الإسرائيلي. تشمل الأراضي المحتلة غزة أيضا، على الرغم من ادعاء إسرائيل للعكس، وهو الأمر الذي لا يقبله حتى مؤيدها المخلص المتمثل في الولايات المتحدة. وبالرغم من إلمامها التام بأنه من المرجح أن يصبح موطن مليوني شخص فعليا غير ملائم للعيش في غضون بضع سنوات ، كما أنذر بذلك المراقبون الدوليون، لازالت إسرائيل تحكم قبضتها، ومصممة رسميا على إبقاء أهالي القطاع في “نظام حمية”، بينما يمارس جيشها الذي يسم نفسه ب” أكثر جيوش العالم أخلاقية ” أفظع الجرائم التي ما فتئت تروع العالم.

تركيا هي الأخرى حالة خاصة. للبلد تاريخ طويل ومعقد منذ أن أخذت الدولة التركية الحالية شكلها بعد الحرب العالمية الأولى. إلى حين قريب، في عقد التسعينيات، كانت تركيا مسرحا لإحدى أعنف المجازر في تاريخ الفترة إذ شنت الدولة حملة من الإرهاب ضد الأكراد، لقي خلالها عشرات الآلاف مصرعهم، بينما دُمِرت آلاف المدن والقرى، وهجر الآلاف أو ربما الملايين منازلهم، بالكاد يعيش البعض منهم في مباني مهجورة في اسطنبول. تعتبر واشنطن الداعم الأكبر لتلك الجرائم، حيث كان الرئيس كلينتون مسؤولا عن تزويد تركيا ب 80 % من الأسلحة على نحو تصاعدي تزايدت معه نسبة الفظائع التي لم يتم الإبلاغ إلا عن القليل منها، بالرغم من أن الصحف الرئيسية كانت لها مكاتب في تركيا بكل تأكيد. معظم المعلومات المتاحة حول تلك الجرائم صادرة عن التقارير المفصلة للباحث البارز لهيومن رايتس ووتش، جوناثان سوغدن، الذي بلغت حنكته درجة أقدمت معها الحكومة على طرده. من الأهمية بمكان تواجد طائفة من الكتاب والفنانين والصحفيين والناشرين وغيرهم الذين لم يعترضوا على الجرائم فحسب، بل أيضا شنوا حملة عصيان مدني مواجهين، وأحيانا تعرضوا لعقوبات قاسية وطويلة الأمد. لم يسبق لي أن رأيت مثيلا لهؤلاء في أي مكان آخر.

بحلول القرن الحالي، كان الوضع في تحسن، وفي وقت وجيز جدا، بما في ذلك السنوات الأولى لأردوغان. لكن سُرعان ما بدأ التراجع تحت قيادته، ليشتد للغاية. امتلكت تركيا أسوأ سجل في العالم فيما يتعلق باضطهاد الصحفيين، وامتد القمع إلى الأكاديميين وغيرهم، كما ازدادت الهجمات الشرسة على المناطق الكردية. وتنقسم الدولة بين قطاع يساري ليبرالي علماني، وجناح متدين بشكل كبير، يتواجد معظمهم في الأرياف. وكإسلامي صرف، سعى أردوغان إلى دعم هذا القطاع واعتمد عليه في إنشاء دولة استبدادية عنيفة وقمعية ذات مكونات إسلامية قوية. من المؤلم حقا أن نرى ما يحدث، ليس فقط بفعل الجرائم ولكن نظرا للآمال التى كانت معقودة بأن تصير تركيا بمثابة همزة الوصل بين الغرب والشرق، اقتصاديا وثقافيا.

حالة أخرى مشابهة تتمثل في المجر. وهي جزيرة ثقافية- لغوية حققت إنجازات ثقافية ملحوظة لكنها تحمل سجلًا قبيحًا من الفاشية والتواطؤ مع النازيين. انطلاقا مما قرأت -إذ ليس عندي معرفة وثيقة بالموضوع- كانت البلاد منذ زمن بعيد تخشى الازدهار، وحتى التلاشي – مخاوف زاد من وقعها مرور اللاجئين- نحو أوروبا عبر البلاد. يتناقص تعداد سكان المجر جزئيا إثر انخفاض معدل الخصوبة، وجزئيا إثر نزوح الكثيرين نحو الغرب. استغل فيكتور أوربان تلك المخاوف لبناء “ديمقراطية غي رليبرالية” مكرسة “لإنقاد المجر” و”القيم التقليدية للبلاد،” بما تتضمنه تلك الشعارات من تلميحات معتادة تبعث على الكراهية والعنصرية.

الكثير يمكن قوله عن العنصرية في أوروبا، وهذا أمر غير مرئي عندما يكون السكان متجانسين إلى حد كبير، لكنه يظهر بسرعة بمجرد وجود أي “تلويث” من جانب من هم مختلفون قليلًا. لا داع للخوض في تاريخ اليهود والغجر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.