فاروق أبو عيسى ورمزه العجلة (1963)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
كان من حسن طالع شاب مثلي أدركته السياسة في نهاية المدرسة الثانوية (1960) بقيام ديكتاتورية الفريق عبود (1958-1964) أن كان في البلد حزب شيوعي حاق. فلم يتمتع بقيادة السياسة عندها علم وفن كما تمثلت في استاذنا عبد الخالق محجوب فحسب بل بوجود فريق من الرفاق جسد أقصى الفدائية لقضية الوطن والكادحين. وكان المرحوم فاروق أبو عيسى من بين ذلك الفريق الساطع. وأول ما طرق اسمه أذني بقوة كان خلال تلك الفترة من 1963 التي ترشح فيها لينوب عن دائرة حي البوستة لمجلس مدينة أم درمان. كان فاروق طاقة لوحده. وفتح بتلك الانتخابات القاعدية للمجلس المركزي (سيجري تعريفه) باب الجحيم السياسي على النظام الديكاتوري.
تفتق ذهن نظام عبود عن المجلس المركزي بهندسة مولانا أبو رنات، رئيس القضاء، ليتمسح بالديمقراطية وما هو بالديمقراطي. ولكن “حركات مكاتب”. وقامت انتخاباته على التصعيد من مجالس الحكم المحلي، إلى مجالس المديريات، فالمجلس المركزي. وكنا قررنا في الحزب دخول هذه الانتخابات بعد أن خَيّرنا جبهة المعارضة (الأمة، الوطني الاتحادي-الأزهري) آنذاك بين مقاطعته كما قاطع قسم من الوطنيين الجمعية التشريعية (1948) فولدت مفضوحة عرجاء، أو ندخله وننتهز سانحات الترشيح لنصلي الدكتاتورية نارا. وهو دخول كالمقاطعة. ولم تتفق معنا المعارضة وقررت مقاطعتها من منازلهم. وكانت المعارضة في حالة خمول بعد وفاة الإمام الصديق المهدي. وبلغ عزوفها عن مطالعة النظام حداً رحب فيه المرحوم الإمام الهادي بإعلان الفريق عبود بالتطورات الدستورية لقيام المجلس المركزي (28 نوفمبر 1961) ودماء شهداء الأنصار في مولد أم درمان بيد النظام لم تجف بعد (21 أغسطس 1961). ولما لم نر جدية في مقاومة المجلس المركزي لم نقرر دخوله بقوة فحسب بل والخروج من جبهة المعارضة الخاملة.
كان فاروق أبو عيسى في أم درمان نجماً شد أبصارنا الصبية المؤرقة بالحرية. فصهل بصوت جهير في لياليه السياسة. ورأى الناس حديثة العهد بمقاومة أول نظام طاغية فتى يأخذ المنبر غلابا ويصلى النظام حمما فيشفي قلوب قوم مرهوبين. ففي برنامجه “عهد وميثاق” لأهل حي البوستة “دلا” الحقوق الإنسانية جميعها. فطالب بكفالة الحريات السياسة، وإشاعة الديمقراطية، وتثبيت حق المواطنين في التعبير، وحرية الصحافة برفع حالة الطوارئ وإلغاء القوانين الاستثنائية. وتفرع من هذا الحق العام إلى قضايا الكادحين وحقوقهم. فالتزم بالدفاع عن مطالب الطبقة العاملة والمزارعين وحقهم المقدس في التنظيم والأضراب، والدفاع عن مطالبهم لتحسين حياتهم المعيشية. ثم انتقل ليلتزم بالدفاع عن حقوق المرأة السياسية مع تطوير مدارس البنات وتوسيعها. ونادى بتحرير جميع المسجونين السياسيين.
ما تعلمناه في باكر صبانا هو أن السياسة حرب حياة القضية فيها وموتها في اتقان التكتيك. ووجد فاروق في علم التكتيك الذي برع فيه أستاذنا عبد الخالق محجوب في مثل خطته في دخول المجلس المركزي رحابة ليبدع في ما كنا نسميه “أعطني خرم إبرة أدخل من خلاله جملاً” من فرط الدأب في استثمار الضيق السياسي المفروض علينا. وكان خرم إبرة دائرة البوستة يتسع لجمل فاروق مرشحاً مقاتلاً باهراً. كان يزبد للوطن ويرغي.
كنت تطرقت لمنزلة التكتيك في السياسة في نعي سبق لي لرفيقنا عبد الله عبيد النجم الثاقب الآخر مع فاروق ومرشح حزبنا في دائرة الثورة أم درمان. وقلت إن تكتيك المساومة المقاتلة، متى ما لم يكن لك مخرج سواها، تستحق الاستعادة في ظرف الإنقاذ الذي فشت فيه مقاطعة الانتخابات العامة والنقابية كبسالة وحيدة. بل صار مجرد التفكير في دخولها يستدعي بيت شعر أمل دنقل: “لا تساوم”. وهذه عاهة سياسية لمعارضين لا يجدون غير الشعر مرتكزاً لتكتيكاتهم. وأذكر أن الحزب حين قرر دخول المجلس المركزي قرر لنا دراسة نص صغير من الثوري المعروف فلاديمير لينين عنوانه “فن المساومة” لنرى بأنفسنا أن المقاطعة للانتخابات ودخولها خطتان مشروعتان (حلال) يرجح أي منهما بشرط الظرف السياسي، وميزان القوى، والأغراض المحدودة التي تريدها من هذا أو ذاك. فليس لدخول الانتخابات أو مقاطعتها دلالة أخلاقية مجردة. كما لا يدخل المعارض كل انتخابات لأجل الفوز أو بتعهد حقوقي بعدم التزوير. فلقد سقطت نظم مستبدة بعد انتخابات وتزوير أحسن المعارضون توظيفهما. وأردنا في الحزب بالدخول في المجلس المركزي انتهاز سانحة الشرعية النسبية لعملية الترشيح لنعرض بالنظام من فوق منابرها نُعدي بشجاعتنا طلائع الجماهير. ولم نتزحزح بتكتيك دخول الانتخابات الثانوي هذا مع ذلك عن تكتيكنا الثابت بوجوب الإطاحة بنظام عبود عن طريق الإضراب السياسي العام الذي اعتمدناه خطاً لاستنهاض الجماهير لتلك الغاية منذ 1961.ولما وقع كان فاروق في ذؤابته.
رحم الله فاروق ريحانة الرتل الثاني من الجيل اليساري الذي “اخترع” الشعب. وتلك قصة أخرى.
برنامج فاروق الانتخابي لانتخابات دائرة البوسة أم درمان (1963)، الحزب الشيوعي، ثورة شعب: ست سنوات من النضال ضد الحكم العسكري الرجعي، 1965، صفحة 401.