فقر في الجيوب والأخلاق

0 67

كتب: جعفر عباس

.

انظر البيوت في المدن السودانية، وستحسب أنها سجون صغيرة أو أقفاص دواجن، فما من بيت الا ونوافذه مترسة بالأسياخ، وفي بعض الأحياء توقف الناس عن النوم في الحوش ليلا لظهور فئة جديدة من اللصوص تشهر السلاح في وجه ساكني البيوت وتوقظهم ليأتوا بما عندهم من مال او مجوهرات او حتى ملابس من داخل الغرف، حتى المدارس على ما فيها من أثاث بائس باتت ذات نوافذ مزودة بالأسياخ. 

الفقر ينهش الصحة والأخلاق والقيم، وينشأ ويعم في ظروف تفاقم البطالة والجهل وضعف الوازع الديني، ومن بلا عمل ولا مال يقيم الأود وعندما يرى ويسمع ان أصحاب الوجوه المكتنزة والملابس الأنيقة يسرقون الأموال المخصصة للصحة والتعليم وغيرها من الخدمات، قد يقول “بايظة بايظة” ويمارس السرقة بما تسمح به إمكاناته، ونحن نعيش في بلد أكثر من 30 مليون من سكانه ال43 مليون يقبعون تحت خط الفقر، ومتوسط دخل الفرد في السودان على الورق 49$ في الشهر، وهناك ملايين لا يفوزون ب10 دولارات في الشهر، وبسبب الفقر فهناك نحو 3 ملايين طفل في عمر 5-13 سنة لا يذهبون الى المدارس، ومن بين نحو 16 مليون طالب علم في البلاد لا يكاد أكثر من 10 ملايين منهم يتناولون أكثر من وجبة واحدة في اليوم، يقابلهم على الضفة الأخرى نحو مليون طالب يتلقون تعليمهم في مدارس خاصة.
هذا غير الفقر في المناهج التعليمية وفقر البيئة التعليمية نفسها فلا وجود في كثير من المدرس للمقاعد والسبورات والكتب والدفاتر، فصار التعليم سلعة تجارية وهناك اليوم 12 الف مدرسة خاصة في السودان حسب إحصاءات منظمة اليونسكو، وما يربو على 70 جامعة بل إن عدد كليات الطب في السودان حيث إجمالي الناتج القومي نحو 35 مليار دولار، أكبر من عددها في استراليا حيث اجمالي الناتج القومي تريليون و300 مليار دولار، أما مظاهر الفقر في مرافق الخدمات الطبية فهي مرئية بالعين المجردة في المباني المتهالكة وعدم وجود حتى السماعات وأجهزة قياس ضغط الدم في معظمها
ولكنك لا تكاد تسمع شيئا عن محاربة الفقر في برامج الأحزاب المتكالبة على السلطة، بل تتعاقب علينا الحكومات وتزيدنا فقرا، وكانت آخر حكومة قام البرهان عند انقلابه الأخير بحلها تتألف من 27 وزيرا (عدد الوزارات في ألمانيا 17)، وفي عهد الكيزان كان عدد الوزراء في الحكومة الواحدة 141 بينما كان عدد أعضاء برلمانهم يفوق عدد أعضاء الكونغرس الأمريكي بمجلسيه (النواب والشيوخ).
ويتعاقب على الحكم أمة/ عسكر/ اتحادي/ عسكر/ كوكتيل أحزاب/ عسكر/ قحت/ عسكر/ ثم عسكر وعصابات مسلحة؛ وبلد كان رموز الحكم فيه التجاني الماحي ومحمد صالح الشنقيطي ومحمد احمد محجوب تؤول مقاليد الأمور فيه بعد 65 سنة من الاستقلال الى حميدتي وترك وأردول وعسكور وبرطم (هل سمعتم برطم هذا وهو يبرطم قائلا إن الخرطوم أهم من القدس ومكة، ومع هذا لم يعرض له خطيب مسجد؟)
وكل حكومة تأتي تصرف لنا الفاليوم اللفظي: نحن أغنياء بالموارد وعندنا و… عندنا، وهذا صحيح ولكننا فقراء في السياسة والأخلاق فالقابضون على زمام الأمور هم من يتولون تهريب ذهب بقيمة 16 مليار دولار سنويا، ويصدرون الماشية الى مصر بأبخس الأثمان لتعيد مصر تصديرها بالدولار بمسمى “لحوم مصرية”، والفساد في بلادنا مؤسسي وينخر في مفاصل الأجهزة المدنية والنظامية، حتى صارت الرشوة ممارسة “عادية” (هل أتاك حديث المدير الفاسد الذي أتاه مستثمر صيني برشوة نقدية ومعها علبة شوكولاتة، فاستلم الكاش واعتذر عن قبول الحلوى لأنه “صائم”؟)؛ وكي تخرج بلادنا من مستنقع الفقر فلابد لنا من ثورة في الأخلاق والمفاهيم، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وياما عندنا حلفاء كثيرون للشيطان لا نهوض لبلادنا دون اجتثاثهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.