في الذكرى الرابعة والستين لمأساة عنبر جودة (16-18 فبراير 1956)

0 562

كتب د. عبد الله علي إبراهيم:

(تمر غداً الذكرى الرابعة والستين لمذبحة عنبر كوستي التي حصدت 194 روحاً بريئة من مزارعي مشروع جودة الزراعي بجنوب النيل الأبيض ممن طالبوا بصرف استحقاقهم عن القطن الذي زرعوه في شراكة مع المشروع. واخترت للتعريف بالمأساة مقالاً نشره صلاح محمدي في الذكرى الثامنة والخمسين للواقعة. واخترته محرراً لتعريفه المباشر بها).

صلاح محمدي نشر في الراكوبة يوم 26 -02 -2014

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة وخمسين لأحداث عنبر جودة والتي راح ضحيتها أكثر من 250 (في رواية أخرى نحو 200) مزارعا من مزارعي مشروع جودة الزراعي بسبب حبسهم في غرفة ضيقة لا منافذ لها ومسقوفة بالزنك وفى يوم قائظ الحرارة. لم يسمح لهم بتناول الماء مطلقا في ذلك اليوم فسقطوا جميع قتلى ما عدا ثلاثة ناجين.

, فما هي خلفية الإحداث؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه فى هذه المراجعة للمأساة .
جودة مدينة كانت صغيرة في ذلك الحين ( 16-18 فبراير من العام 1956م) تقع جنوب مدينة الجبلين وتضم مساحة شاسعة من الأراضي الزراعية. وبها قبائل متعددة أكبرها قبيلة نَزّي. كما تضم قبائل التعائشة والفور والبرقو والزغاوة والفلاتة وعرب كنانة. وكانوا جميعهم من القبائل الرعوية ويعتمدون على زراعة الذرة والخضروات في شواطئ النيل الأبيض. لكن الاغلبية منهم من الرعاة. بلغ تعداد جودة لحظة وقوع المأساة حوالي العشرين ألف نسمة بمن تجمعوا في القرى والحلال القريبة منها بعد أن جذبتهم الدعاية القوية بمولد الحدث الكبير وهو مشروع جودة الضخم الذي أنشأته شركة عبد المنعم محمد.

وقام المشروع الكبير. وقامت في جودة وحولها الأسواق الكبيرة والشفخانات الطبية المدارس. كانت المدينة الصغيرة الوادعة تغلى في ذلك الحين بنزاع كبير. كان الجدل يدور بين الإدارة المحلية للمشروع وبين اتحاد المزارعين حول مطلب وحيد تقدم به الاتحاد إلى الإدارة. كان اتحاد المزارعين الوليد برئاسة اسماعيل المكادى، وهو أحد كبار شيوخ بادية قبيلة نزى، طلب أن تؤجل الإدارة ترحيل أقطان ذلك الموسم إلى محالج ربك إلى أن تتمكن الإدارة من صرف متأخرات الموسم السابق. وكان المزارعون ذلك ضغطاً من المزارعين على الإدارة المحلية لكي تضغط بدورها على الإدارة العليا للشركة في الخرطوم للإيفاء بالتزاماتها نحو المزارعين. وتعود أسباب النزاع إلى أن جودة مشروع زراعي يتبع لشركة ومزارعوه هم أهل المنطقة ولكل نصيبه من عائدات الإنتاج وفقا لاتفاقات محددة بين الأطراف المتشاركة. ولم يقبض المزارعون حقوقهم في الثلاثة أعوام الأخيرة التي سبقت الكارثة. فطالبوا الإدارة بصرف مستحقاتهم. وتجمعوا في يوم 16 فبراير من كل القرى التابعة للمشروع، أرسلت الحكومة قوة من الشرطة بقيادة صول من أبناء المنطقة اسمه السماني يوسف في محاولة للوصول لحل. تطور التجمهر إلى اشتباك بين الشرطة والمزارعين سقط فيه قتلى من الجانبين بما فيهم قائد قوة الشرطة. وسقط من جانب المزارعين سكرتير الاتحاد أبو شلاتين وشهداء آخرين من المزارعين.

وحين وصلت أخبار الاشتباكات والقتل إلى كوستى سارعت الجهات الحكومية بإرسال قوة كبيرة تتبعها مجموعة من الشاحنات الثقيلة (قندرانات). بعد وصول القوة لموقع الحدث ألقت القبض على مجموعات كبيرة من المزارعين بعضهم لم يشتركوا في الإحداث بلغوا نحو االمائتين. وزج بهم على ظهور الشاحنات تحت الحراسة. وفى اليوم التالي 17 فبراير وعند العاشرة ليلا وقفت الشاحنات في داخل حامية كوستى. وتم إنزال الشحنة البشرية أمام أحد عنابر الحامية. وتم دفعهم للدخول بقوة السلاح. فاكتظ بهم ذلك العنبر المسقوف بالزنك والخالي من النوافذ في يوم قائظ الحرارة. ولم يسمح لهم مطلقاً بشرب الماء منذ القبض عليهم وترحيلهم وحبسهم وحتى صباح اليوم التالي. وثبت بأنهم تكدسوا وتلاصقوا بما لا يدع مجالا حتى للتنفس وليس هناك فتحات لدخول الهواء. لم تستجب قوة الحراسة لمناداتهم بالاستغاثة. وبعد مرور ساعتين بدأت الأنفاس تخمد. وعند الصباح مات الجميع عدا ثلاثة وضعوا أنوفهم عند فتحات صغيرة فى حائط الزنك. أحد الناجين قال: إنه ظل يطرق الزنك بيده بينما كان الحارس يزجره. ونجح في خرق الجدار بسكين الشى الذى مكنه من وضع انفه على الفتحة .
في صباح 18 فبراير1956 أمرت السلطات بحفر مقبرة جماعية كبيرة. وتم تجريد الجثامين من الملابس والأحذية ثم رموا بهم في تلك الحفرة. ومن ثم أهالوا عليهم التراب وأنتهى كل شيء.

ووصف نصرالدين ابراهيم شلقامي في كتابه عن كوستي المأساة التي حدثت داخل العنبر. فجاء على لسان أحد الناجين من عنبر الموت قوله:” ولم تمض ساعة أو ساعتين علينا، ونحن في تلك الغرفة المغلقة النوافذ والأبواب حتى شعرنا بالضيق يضغط على صدورنا، ويمسك بأعناقنا، ويقطع أحشاءنا. ثم سال العرق من أجسادنا على أرض الغرفة. وبدأنا نشعر بشيء يشبه الاختناق. ثم جفت شفاهنا وتحجرت حلوقنا. وأصدرنا صيحات للحراس، الذين كانوا يحملون السلاح ويمشون على مقربة منا من الخارج، نطلب الماء والهواء حتى لا نختنق. وكان الرد يأتينا في كل مرة بالسخرية مننا، وبالرفض القاطع لإعطائنا الماء والهواء. هنا اشتد ضربنا على النوافذ والأبواب. وكنا قد فقدنا القوة تماماً، واستحوذ علينا اليأس. ولما انتصف الليل أصيب البعض منا بنوبات تشبه الجنون وكانوا يطأون رقابنا وظهورنا ويرددون كلمات غير مفهومة. ثم يسقطون صرعي على بعضهم البعض. ورأيت على مقربة منى بعض الرجال، ولعلهم من بيت واحد، يمسكون ببعضهم البعض بعنف وشدة حتى تخرج أرواحهم.”
وسبب الوفاة كما جاء في التقارير الطبية كان نتيجة الإرهاق الشديد والحرارة ونقص في الأكسجين وتراكم بخار ثاني أكسيد الكربون بصورة مكثفة داخل العنبر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.