قطار الشوق..

0 66

كتب: فايز الشيخ السليك

.

عندما كان أحد قطارات الركاب متجهاً من الخرطوم، إلى مدينة عطبرة، يوم الثلاثاء الماضي، لم تكن إدارة هيئة سكك حديد السودان تعلم أن ثمة مفاجآت غير سارة تنتظر القطار عند الكيلو ٧٣ قرب محطة الرويان، و لا كان لأحد أن يتكهن بمصير عشرات الركاب إن لم يكن الجميع؛ بما في ذلك الأشواق واللهفة لنسائم عطبرة الحلوة.

قبل بلوغ سائق القطار المسرع محطة الريان، عبثت مجموعة من ( البشر) بقضبان السكة حديد، وسطت على معدات تثبيت الخطوط المكونة من (بلنجات، مثبتات للفلنكة)، وكشف بيان لوزير النقل ميرغني موسى، تفاصيل ما حدث، ومؤكداً أن السائق أوقف القطار على مسافة معقولة قبل وصوله الى مكان الجريمة مما أنقذ حياة الركاب, سؤالي هنا لا يتعلق بمعرفة أسماء أفراد تلك المجموعة ( الآثمة)؛ أو مسؤولية الجهات الرسمية في تعقب الجناة أو حتى حماية خط السكة حديد،. بل عن (( هوية وتركيبة هؤلاء الجناة؟) ومن أين أتوا ؟ وكيف؟
وفي حادثة أخرى، ربما يراها البعض معزولة لأنها متعلقة بمشروع الجزيرة، فقد أعلنت إدارة المشروع الموسم الماضي فتح حوالى ( ٥٠٠ بلاغاً ) ضد مجهولين بسبب اعتداءات على ترع المشروع، وشملت سرقة أبواب الترع التي تتحكم في مسارات ري الحواشات، مثلما تعرض ذات المشروع العريق بعد حالة الإهمال التي شهدها إلى سرقات شملت خطوط السكة حديد، القاطرات، بيوت المفتشين الزراعيين بما في ذلك الطوب الأحمر وسقوف البيوت وأبوابها وشبابيكها! فمن هم هؤلاء الجناة؟ هل تعرفونهم؟ أم لا يزال البلاغ مقيداً ضد مجهول؟
و في الخرطوم، حذرت إدارة الصرف الصحي بالولاية في شهر ديسمبر من العام المضي من ظاهرة فريدة تلفت الأنظار وترفع حواجب الدهشة و تزيد علامات الاستفهام والتعجب، والظاهرة يا عزيزي القارئ وعزيزتي المحترمة هي سرقة اغطية الصرف الصحي ( المنهولات) ، نعم سرقة أغطية الصرف الصحي بكل برود، ودون تفكير في حجم الأذى الذي تلحقه خفة اليد المستهترة التي لا يهمها سقوط انسان داخل ( بالوعة ) مفتوحة، أو تعطيل سيارة ، وفوق ذلك ما تلحقه الجريمة من أضرار بتصريف المياه وصحة البيئة.
سألتُ نفسي، من هم هؤلاء الآثمين؟ ومن أين جاءوا؟ وهل هم ذات المجموعات التي تعبث بخطوط السكك الحديد في عدة مناطق؟ أم هي جماعات سرقة الأبواب بمشروع الجزيرة؟ وما هو الرابط بين كل هؤلاء؟ أهو الهدف من السرقة والحصول على جنيهات قليلات لا يسترن حال السارق، لكنهن يكشفن عورة الشوارع والمصارف والمواطن السوداني ذات نفسه؟
وقبل أن أشير بأصابع الاتهام إلى أي جهة، أحب أن أؤكد أن الجريمة قديمة قدم الإنسان، وأن أول جريمة قتل طهرت مع بداية البشرية، ومعروف أن للجريمة دوافعها وأسبابها، مهما اختلفت أنواعها، وسوف تبقى الجريمة ما بقي البشر.
أما جرائمنا التي أشرتُ إليها في هذا المقال فهي جرائم ليست موجهة ضد أفراد، أو جماعات مثل جرائم الحروبات والانتهاكات الفظيعة، بل هي جرائم موجهة مع سبق الإصرار والترصد ( ضد وطن) مستهدفةً المرافق العامة، والمؤسسات الحكومية، وأن خطورتها لا تنحصر فقط في ازهاق الأرواح البريئة، وانما تكمن خطورتها في الاسهام في عملية جهولة تنتهي بتدمير الوطن، وتعطيل التنمية.
إن المتهم واحد، مواطن بلا ضمير، ذات الضمير الذي كان قد هشم صناديق تلفونات الشوارع في تسعينات القرن الماضي، هو الشخص الشرير، عدو التقدم القابع في داخل كثيرين منا، الذين لا يعرفون شيئاً اسمه الوطن، ذات الذين يسرقون اغطية الصرف الصحي و لا يشعرون بخجلٍ حين يشكون من تردي البيئة، ومن تقصير الحكومة في أداء واجباتها، وهم الذين يسرقون بوابات ترع مشروع الجزيرة، و لا يجدون حرجاً من بث مر الشكوى من مشكلات الري، ومن عجز السلطات في توفير المياه للزراعة، وربما هم ذاتهم الذين يزرفون سخين الدمع على ضياع سرايا ومكاتب المشروع في عصره الذهبي!
سوف أحرر نفسي هنا من تهويمات تفكير عقلية المؤامرة، فالجرائم المعنية لم تستهدف نظام سياسي، و أشير إلى أن هذه الجرائم ليس بالضرورة أن تكون مرتبطة باستهداف نظام حاكم، و نشرت صحيفة ” الرأي العام” في عدد ٢٩ نوفمبر ٢٠١٢ أن منطقة وسط الخرطوم تقترب من تسجيل رقم قياسي في سرقة أغطية المنهولات، ورصدت سرقة عدد من المنهولات لتصريف مياه الصرف الصحي بشارع على عبد اللطيف وغيره من الشوارع ، حيث باتت تلك المنهولات بلا أغطية ، ومكشوفة امام كثير من الحوادث .
أما جريمة سطو مشروع الجزيرة، فإن الأمر أكثر تعقيداً وأكثر غرابةً، وهنا أشير الى ما جاء في صحيفة ” حريات الالكترونية في يوم ١٨ مارس، ٢٠١٥ حيث ذكرت” أن اللجنة الحكومية للتصرف في مرافق القطاع العام أقرت بنهب 1000 كلم من قضبان سكة حديد مشروع الجزيرة التي يبلغ طولها 1200 كلم. وقال عضو اللجنة الفنية للتصرف في مرافق القطاع العام محمد الأمين علي جابر خلال اجتماع لجنة التقصي حول عقارات مشروع الجزيرة بأمانة حكومة ولاية الجزيرة، الثلاثاء، (اللجنة الفنية التي زارت المشروع تملكها الذهول من سوء ما وقفت عليه بالمشروع ) .
ليس مستبعداً في واقعة مشروع الجزيرة ارتباط الأمر الجنائي بالسياق السياسي، وتفكير العقل الإسلاموي الذي لا يؤمن بالدولة القومية وفق الحدود السياسية والجوغرافية، لأن عقيدته لا تعطي للوطن قيمةُ ودليلنا الرعي الجائر في المؤسسات العامة وتوزيع دمائها بين سماسرة مراكز القوى، ومثل هذا التفكير يحفز بقية المواطنين في التعامل مع مؤسسات الدولة بتفكير ( الميري والغنيمة).
هذه حوادث قد يراها البعض صغيرة ومعزولة عن بعضها البعض، إلا أن قليلاً من التأني سيقودنا إلى أنها ظاهرة عامة مرتبطة ببنية وتكوين عقلنا الجمعي ، بل نابعة من تراثنا وأمثلتنا التي تشجعنا على أن ( الميري كان فاتك اتمرغ في ترابو)، وهذا التراب يمتد على مد البصر في ظل انعدام القوانين الرادعة، وقبل ذلك غياب الوعي الوطني، وهو ما يحفز على السطو على كل ما هو عام دونما شعور بتبكيت ضمير، بل ربما لا يخفي البعض مشاعر الفخر حال الحصول على أي ( غنيمة عامة سائبة)
يتجاوز الأمر التعدي على المرافق العامة حتى يبلغ أزمة الدولة الوطنية في السودان، والتي هي أحد أزمات عقلنا السياسي، فاضطراب الهُوية، وغياب الدولة الوطنية، يقود إلى انتشار النعرات العنصرية، وعلو كعب القبيلة على الإقليم ، والتعصب للإقليم على حساب الدولة، والاستهتار بكل المؤسسات والمرافق العامة، والعمل بالمثل القائل ( دار أبوك كان خربت اخد ليك منها شلية)!
ليس مهماً في تفكير هذا العابث خطورة تلوث المدينة بمياه الصرف الصحي، أو سقوط انسانٌ داخل الآبار المفتوحة، ولا ينبت حزن داخل قلبه الميت؛ لو وأدت سرقته السكة حديد أشواق عائدين وعائدات الى المدينة، وفي القلوب لهفة تتوسل قطار الشوق( بأن يسرع عجلاته، وكي يغشون بلداً عزاز أهلا). ونواصل في الحلقة المقبلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.