كمال الجزولي يكتب في رحيل نقد : ( نصٌّ محوَّل من حوار صحفيًّ إلى مقالة)

الجزء الاول

0 100

بقلم : كمال الجزول

(1)
إنْ كان ما يعنيه الموت هو فناء الخلايا الذي لا بُدَّ أن يحيق يوماً ما بأيِّ جسد حي، فلا جدال فـي أن ذلك قد حدث، بالعاصمة البريطانيَّة، لمحمد إبراهيم نُقُد، السكرتير العام للحزب الشِّيوعي السُّوداني، بعد ظهيرة الثاني والعشرين من مارس 2012م، مثلما يحدث لكلِّ الناس، بإرادة الله التي لا رادَّ لها، طال الزمن أم قصُـر.
ورغم أنه لم يرحل بغتة، بل هيَّأنا لذلك تماماً، إلا أنني أكذب، قطعاً، إن قلت إنني تجاوزت الصَّدمة، أو إن بمستطاعي تجاوزها فـي المستقبل القريب. إن بعض الفقد يُتْمٌ، ونُقُد، بالنسبة لـي، لم يكن فقط قائدي السِّياسي والفكري الذي لطالما تشـرَّفت، علـى مدى سنوات طوال، بالاصطفاف فـي النضال خلفه كواحد من عشرات الآلاف من الزملاء، بل كان أكثر من أخ أكبر، وأكثر من وليٍّ حميم، جمعتنا ذكريات كثيرة، مع أصدقاء مشتركين أوقن تماماً أن الأحياء منهم يقاسمونني، ولا بُدَّ، شجن الرحيل، وفداحة الخطب، ومرارة الإحساس الشَّخصـي بالفقد، ويدركون، بوجه خاص، أطال اللـه أعمارهم، معنى كل حرف أذرفه، هنا، فـي ذكراه العطرة، وفي سيرته النضرة، علـى نواقص العبارة، وعلـى قصور التَّعبير، بمثل ما ذرفت من دمع ربما لم أكن لأتصوَّر فـي أيِّ يوم أن بمقدوري أن أذرفه؛ جعل اللـه البركة فيهم، وفينا، وفـي أهله، وفـي الحزب، وفـي السُّودان، ونسأله، جلَّ وعلا، أن يتغمَّده برحمته، وأن يلهمنا الصبر من بعده.
لكن نُقُد، من الناحية المعنويَّة، لم يمُت، ولن يموت، وما تلك محض حماسة لفظيَّة؛ فالرَّاحلون يخلدون بطيِّب الذكرى وجليل الأعمال، لذا، سيبقى الرَّاحل العزيز حيَّاً فـي إرث الحكمة والاستنارة الهائل الذي تركه، لا للحزب الشِّيوعي السُّوداني وحده، ولا للحركة الشِّيوعيَّة الإقليميَّة والعالميَّة فحسب، بل وللأجيال القادمة من السُّودانيين قاطبة، أولاداً وبنات، ليس فـي السِّياسة أو الفكر فقط، وإنما، أيضاً، وربَّما قبل كلِّ شئ .. فـي أفق القيمة الإنسانيِّة.
لقد كان، فوق كاريزميته التي بوَّأته مكانة عليَّة فـي قيادة الحزب والحركة الوطنيَّة، إنساناً بسيطاً، شفافاً، يتلألأ بقدر عظيم من المعني الإنساني الرفيع. كان يغالي فـي بغضه، لا لـ “الملكيَّة الخاصَّة” فحسب، بل وحتى “الملكيَّة الشَّخصيَّة” المقبولة ماركسيَّاً! كان يحبُّ أن يهدي أشياءه على بكرة أبيها، ولا يطيق أن يحتفظ لنفسه بشئ أبداً! أهداني، مرَّة، ساعة يد، وعندما أهديته، بالمقابل، ساعة جيب سارع إلى إهدائها هي الأخرى. وبعث إليه أمين مكي، عن طريقي، بباقة قمصان أنيقة من غزة، فأهداها كلَّها! ولدى زياراته الرَّسميَّة لبعض البلدان تغدق عليه الهدايا، فلا يهدأ له بال، عند عودته، حتى يوزِّعها جميعاً .. وهكذا! كان بلا شبيه، تقريباً، علـى هذا الصعيد!
كانت نفسه الكبيرة تذخر بفيض دافق من الرِّقة والحنان؛ وكان يكفيك، كي تلمس شيئاً من ذلك، أن تسمعه يحدثك، هاشاً، وعيناه تبرقان بذلك الشَّغف العجيب، عن بعض الأماكن، كالقطينة أو حلفا أو مدني أو حنتوب، أو يذكر، بتقدير كبير، أصدقاء له من غمار الناس علـى عهدي الطفولة والصِّبا الباكر، أو يجترُّ ذكريات بعيدة، سواء مع أهله، وفيهم، بالأخص، أخوات وخالات وعمات كان يترفق بهنَّ، ويعطف عليهنَّ، وقد بكينه بدمع الدَّم، أو مع زملاء قدامى يناضلون بتواضع جمٍّ، كما الجنود المجهولون، فـي قواعد الحزب. وقد يندهش الكثيرون إذا عرفوا أنه، علـى مبدئيته الصَّارمة، لم تكن له، مع أحد من الناس، عداوة لأسباب خاصَّة، مطلقاً، ولم يكن يبغض إنساناً، قط، فـي المستوى الشَّخصـي .. ولا حتى جعفر نميري الذي بقي يطارده بالموت طوال أنضـر سنوات عمره!
هاتفته، ذات مساء، أنقل إليه خبر وفاة أحمد سليمان المحامي، ومعلوم، بالطبع، أن المرحوم أحمد كان ضالعاً، فكريَّاً وسياسيَّاً، في الانقسام الأشهر الذي كشف ظهر الشيوعيين، أواخر ستينات ومطالع سبعينات القرن الماضـي؛ مع ذلك لمست حزناً صادقاً عليه لدى نُقُد الذي طلب مني، علـى الفور، أن انتظرهما، هو وشقيقه سيِّد، لنذهب معاً للمشاركة فـي التشييع! وفي منطقة أبوروف، حيث منزل المرحوم أحمد، كانت الكهرباء مقطوعة، ذلك المساء، والظلام دامساً، لكن صديقنا القديم عثمان النصيري، صهر المرحوم أحمد، ما لبث أن تعرَّف علينا، فأحسن استقبالنا، ودلَّ علينا الأقارب الآخرين فهبُّوا يتلقون عزاءنا، وإنْ هي إلا لحظات حتى انساب الخبر إلـى داخل الدار، فخرجت إلينا السَّيِّدة نعيمة بابكر، أرملة المتوفي وابنة عمه، فـي جمع من نساء العائلة، يتلقين، بدورهنَّ، العزاء من نُقُد ومرافقيه؛ ثم مشينا خلف الجُّثمان إلـى مقابر أحمد شـرفي، فكان الناس يتزاحمون لتحية نُقُد ومصافحته، ولسان حالهم يقول: “عشت أيَّها الرَّجل الكبير”! كان الجَّميع منفعلين بذلك المعنى الإنسانيِّ العظيم، الموقر، بوجهٍ خاصٍّ لدى شعوبنا بمختلف قبائلها وتكويناتها القوميَّة، حين يهون، فـي مشهد الموت، كلُّ خلاف دنيويٍّ مهما كان، ولا يعود حاضـراً، ساعتئذٍ، سوى فداحة الفقد، وحسن الاستغفار، والترحم.
وعلى شدة الصراعات السياسية التي خاضها نُقُد فإنك لن تجد من يقول لك إنه سمعه، يوماً، أو رآه يعنِّف إنساناً، مثلاً، أو يتجهَّمه، لسبب شخصي، رغم أن تلك الانفعالات، فـي رأيي، قد تمثل، أحياناً، تنفيساً تلقائيَّاً مشـروعاً عما يعتمل فـي الصَّدر من مشاعر ضاغطة تكاد تشقه نصفين! كما وأن ثمَّة، فـي هذه الحياة، من يستحقون، بالفعل، تفجير شئ من هذه الانفعالات فـي وجوههم، خصوصاً لما يتَّسم به سلوكهم من وضاعة وكذب ورياء ونفاق! سوى أن نُقُد، برغم شدَّة مقته لمثل هذه المثالب، كان لا يكاد يستوقفه شئ منها إلا حين كان يمسُّ قيمة من قيم العمل العام، أما ما كان يمسُّه فـي المستوى الشخصـي، فإنه سرعان ما كان يتجاوزه، ويمرُّ به مرور الكرام، بل ويضـرب عن سفالات أصحابه صفحاً جميلاً هو إلـى التجاهل أقرب، خصوصاً من كان يتعمد منهم الإساءة إليه وإيذاءه وتجريحه! كان حمولاً، صبوراً، جلداً، يستعين علـى المكاره بحكمة مشهودة فـي تفجير طرائف يعممها فتهدي، ولا يخصصها فتؤذي!
على أن شيئاً من ذلك كلِّه لا يعني، البتّة، أنه لم يكن لديه رأي سالب فـي أحد، فمجال السِّياسة نفسه الذي سلخ فيه عمراً بأكمله، هو، بطبيعته، مجال صـراعات تكاد لا تهدأ. ونقد بشـر وليس ملاكاً. لذا كان لديه، بطبيعة الحال، رأيه السَّالب فـي كثيرين، وفـي كثيرات، وفـي أمور شتَّى! مع ذلك، كان دائم النَّأي بنفسه عن الاشتغال بالفارغة! كان يزعجه، مثلاً، الابتذال حدَّ إثارة إحساسه بأقصـى درجات القرف! لكنه كان يغالب النفس، ويأخذها بالشِّدة والمراقبة الصـَّارمة، فلا يغادر جانب الموضوعيَّة أو عِفَّة اللسان، قط، فـي تعبيره عن وجهة نظره، مما ظلَّ ينأى به عن غثِّ القول، دون تفريط فـي قيمة النَّقد الصـَّريح والمبدئي، بعيداً عن المجاملات الفجَّة والترضيات المجَّانيَّة؛ علـى أنه كان أميل ما يكون، فـي العمل العام، إلـى مزاج العفو دون إهدار للحقِّ، وأبعد ما يكون عن مشاعر الثأر بلا تفريط فـي العدل، ولعلَّ هذا ما يفسـِّر حماسته الكبري لفكرة “العدالة الانتقاليَّة” المفضية، حال اكتمال أشـراطها، وعلـى رأسها الكشف عن “الحقيقة” وإشاعتها، إلـى تطييب النفوس، وإبراء الجِّراح، وإفساح المجال، من ثمَّ، للتَّسويات والمصالحات التَّاريخيَّة التي من شأنها فتح الأبواب علـى مصاريعها أمام إعادة صياغة الدَّولة والمجتمع بشكل إيجابي؛ وليس صدفة أنه خصَّ دعوته إلـى ذلك بجانب غير يسير من خطابه الشهير أمام الجَّلسة الافتتاحيَّة لمؤتمر الحزب الخامس!
(2)
وعلى كثرة ما كان يتَّسم به الرَّاحل العزيز من صفاتٍ طيِّبة، فإن المُرونة ونفاذ البصيرة تكادان تشكلان السِّمَتَين الأكثر بروزاً في شخصيَّته .. كان مرناً جدَّاً لدرجة أن طرفيه قد يلتقيان .. دون أن ينكسـر قط! وكانت له بصيرة نافذة بشكل مدهش، وربما يكفي أن نذكر دعوته الباكرة إلـى “مشاكوس أهلـي” حول دارفور، والتي كان قد طرحها في أوَّل وآخر حوار له في ظروف اختفائه، وكان أجراه معه الأستاذ عمر العمر لصحيفة “البيان” الإماراتية، وذلك عقب توقيع بروتوكول مشاكوس عام 2002م، في وقت لم يكن أحد قد انتبه بعد لوجيب الجلجلة فـي دارفور، والذي ما لبث أن استحال إلى حريق شامل، بعد وقت قصير من جرس الإنذار ذاك الذي أهمِل للأسف!
كانت لديه، دائماً، حياتان: إحداهما “تحت اﻷرض”، حسب المسكوكة الشَّعبيَّة الرَّائجة، وذلك كلما حزب أمر الشُّموليَّة، واضطره للاختفاء اضطراراً، لا اختياراً كما يشيع البعض تنطعاً! ولأن حياة “المخابئ السِّياسيَّة” عادةً ما تكون محفوفةً بالمخاطر، فإن أكثر ما كان يشغله، فـي هذه الناحية، هو صون أسـرار الاختفاء، وعدم السَّماح لكائن من كان بالاقتراب منها! جهة واحدة كانت، بطبيعة الحال، تشكل، افتراضاً، الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة الصَّارمة، هي الجهة الحزبيَّة الموكل إليها أمر تأمينه!
بعد وقت قصير من عودتي من الدِّراسة في الاتحاد السُّوفيتي عام 1973م، تمَّ تكوين المكتب المركزي للفنَّانين والأدباء الشِّيوعيين، فألحقتُ به تحت المسئوليَّة السِّياسيَّة المباشـرة للزميل الصديق عبد الله علـي إبراهيم. ومن ثمَّ بدأت علاقتي بنُقُد الذي وجدته شديد الاهتمام بذلك المكتب، وبالإسهام فـي عمله. ولأسباب تأمينيَّة كان يواصلنا، في الغالب، عبر عبد الله الذي كان “موظفاً” فـي الحزب، ضمن حلقة الكادر المتفرِّغة للعمل “تحت الأرض”، أو “الأفنديَّة المضادين” بمصطلح عبد اللـه نفسه! كان نُقُد يبعث إلينا بملاحظاته كتابة، فـي قصاصات ورقيَّة متناهية الصِّغر، وهي العادة التي لازمته، لاحقاً، حتى فـي ظروف العلن! ولئن كنا نخصُّه هو بالذكر، هنا، فإن هذه العادة قد لازمت، في الواقع، كلَّ الكادر السِّري للحزب على مدى عشـرات السِّنين؛ ولو أن كلَّ الناس اقتصدوا فـي استخدام الورق كما ظل يفعل هؤلاء، لحُفظت غابات كثيرة حول العالم!
كنا نحاوره، ونعقب على ملاحظاته، بذات الطريقة. وكان أكثر ما يبهرني فـي تلك الملاحظات، ليس فقط عمقها المعرفـي والأيديولوجي، أو دقة إلمامها بقضايا الفنِّ والأدب، وإنما الطاقة التي كان يبذلها الزميل “الخير” أو “عبد الرحمن”، وتلك بعض الأسماء الحركيَّة التي كان الرَّاحل يتكنَّى بها فـي مختلف الفترات، وذلك فـي حمله لهموم هذه الجَّبهة، وسط كلِّ مشاغله الأخرى، ودأبه علـى العناية بمن كان يسمِّيهم، تحبباً، “قَبور المبدعين” ـ بفتح القاف ـ أي أولئك الذين لم تقو أجنحتهم، بعد، علـى الطيران البعيد؛ وكان يبذل تلك الطاقة، ويحمل تلك الهموم، ويبدي تلك العناية، مع أن ظروفه كانت، في مجملها، غير مواتية، ومشاغله بالغة الخطورة فـي قيادة معارك الحزب الجريئة مع سلطة مايو، والعهد كان لما يزل قريباً بيوليو 1971م، وما أدراك ما يوليو 1971م، وطيوف أجساد الرِّجال القتلـى، من قادة الحزب والحركة العماليَّة والضباط الأحرار، إما مدلاة تتأرجح علـى أعواد المشانق، أو مثقوبة بالرصاص يعبرها الهواء، كالغرابيل، فـي ساحات الإعدام الحربي! مع ذلك، كان الرَّاحل، وهو الرَّأس الأوَّل المطلوب للإعدام، يخصِّص جزءاً من وقته الثمين ليعالج معنا، بجديَّة تامَّة، قضايا الإبداع والمبدعين!
كان الرَّاحل العزيز مشغولاً، دائماً، وعلى نحو مخصوص، وفـي كل الظروف، بفتح آفاق جديدة لتطوير موقف الحزب من موضوعتي “الدِّين” و”الدِّيموقراطيَّة”، بالذات، من زاوية سودانويَّة محضة، ارتقاءً بالنَّهج الذي كان أرساه الشَّهيد عبد الخالق فـي “الماركسيَّة وقضايا الثورة السُّودانيَّة” عام 1967م، فضلاً عن الوجهة التي اختطتها اللجنة المركزيَّة، فـي عامي 1977م ـ 1978م، عبر وثيقتيها التاريخيَّتين: “الدِّيموقراطيَّة مفتاح الحل”، و”جبهة للدِّيموقراطيَّة وإنقاذ الوطن”، واللتين أسهم الرَّاحل بقدح معلـَّى فـي صياغة أفكارهما الأساسيَّة. كما تسطع فـي الذاكرة، أيضاً، عودة الرَّاحل للانشغال، تحت أكثر الظروف تعقيداً، بحلِّ المشكلات التي جابهت مكتب الأدباء والفنَّانين، قبل وبعد الانتفاضة، وكذلك فـي عقابيل نيفاشا. لقد ظل نُقُد، حتى آخر نفس فـي صدره، وآخر نبضة فـي قلبه، شديد الثقة فـي الدور الذي يلعبه الإبداع فـي بلورة الوعي الثوري، ودفع الجَّماهير باتجاه فعل التَّغيير؛ وللعجب، فقد عاد هذا الإبداع، عند وفاته، ليلعب دوراً تعبويَّاً ثوريَّاً مشهوداً فـي مهرجان تشييعه هو نفسه إلـى مثواه الأخير .. فتأمَّل!
الحياة الأخرى التي عرفتها لنُقُد كانت في العلن، حيث أتيح لـي، بعد انتفاضة أبريل 1985م، وكذلك خلال السنوات الماضية، أن أقترب منه أكثر، عبر محاورات حزبيَّة وديموقراطيَّة عميقة ومباشـرة بمشاركة آخرين، على عدَّة جبهات فكريَّة. وكان ذلك علـى فترتين: أولاهما علـى أيَّام الدِّيموقراطيَّة الثالثة، وما أقصـرها، وقد كان الراحَّل يعتبرها، دائماً، محض “استراحة محارب”، فلم يغفل، لحظة، عن الانشغال بتهيئة نفسه، والحزب من خلفه، لجولة جديدة من المعارك مع شموليَّة كان يراها قادمة من وراء الحُجُب، ولطالما نبَّه إليها، وحذر منها، ملتزماً في ذلك بوسائل وأساليب العمل السِّياسـي وحدها .. وقد أسمع لو نادى حيَّاً! أما الفترة الأخرى فقد انقسمت، بدورها، إلـى فترتين: أولاهما هي التي قضاها فـي الإقامة الجَّبريَّة، تحت حراسة فيالق الأمن، منذ خروجه من السجن عام 1990م، وإلـى حين عودته .. “فـي غفلة رقيبه” إلـى “تحت الأرض” عام 1994م، رغم أن قرار الحزب كان يقضـي بعدم اختفائه حال وقوع أيِّ انقلاب، حتى لو أدَّى ذلك إلـى اعتقاله لبعض الوقت، وهذا ما يفسـِّر كونه الوحيد بين القادة السياسيين الذي وجده رجال الأمن بانتظارهم، فجر الثلاثين من يونيو، وحقيبته جاهزة للمعتقل! وما السبب، كما قال لـي، فـي اضطراره للعودة إلـى “تحت الأرض”، خلافاً للمتفق عليه، سوى حالة الخطر القصوى التي هددت بها تحركات المرحوم الخاتم عدلان، أوان ذاك، وحدة الحزب وتماسكه التنظيمي! أما الفترة الثانية فقد أعقبت قرار اللجنة المركزيَّة الصادر في دورة انعقادها بتاريخ يناير 2005م، فـي عقابيل توقيع اتفاقيَّة السَّلام في 9 يناير من ذلك العام، بإنهاء اختفائه، تاركة له وحده أن يقرر متى وكيف ينفذ ذلك القرار. وقد اختار بالفعل ملابسات صدور الدُّستور الانتقالي فـي مايو 2005م تاريخاً للخروج إلى العلن.
هذه الواقعة تستدعي إلى الذِّهن ما كان “أشيع” عن خرافة “زيارة مفاجئة” قام بها الفريقان قوش وعطا لمخبئه هي التي أنهت اختفاءه! سوى أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه هو من حدَّد بنفسه، وبمحض إرادته، تاريخ وطريقة تنفيذ قرار الحزب بإنهاء اختفائه، بل وشـرع، فعليَّاً، فـي تنفيذ خروجه التَّدريجي إلـى العلن، خلال الثلث الأول من 2005م، عبر تحرُّكات كان يقوم بها في وضح النَّهار، وفـي ظروف المتغيِّرات التي رتبتها نيفاشا.
لم يكن من غير المتوقع، بطبيعة الحال، أن تلفت تلك التحرَّكات العلنيَّة أنظار عامة الناس، وبالضـرورة أنظار الأمن أيضاً، حيث أضحى محل استفهام كبير المنزل الذي كان هو فـي حالة انتقال علني منه إلـى بيت اﻷسرة، فكان أن هرع إلـيه تيم من الأمن، أبلغ لاحقاً إلـى قمَّة الجهاز، ليخفّ إلـى هناك أيضاً الفريقان قوش وعطا، تصحبهما كاميرات التلفزة، بغرض الإيحاء بأن الأمن قد اكتشف مخبأ الرجل، فسجل “زيارة” له وُصفت، ضمن “شهادة زور” الأجهزة الإعلاميَّة، بأنها كانت “مفاجئة”!
لكن ذلك لم يكن صحيحاً، البتة، فلا نُقُد كان مختبئاً، وقتها، ولا المكان نفسه عاد مخبأ، أصلاً، منذ شـروع الرَّاحل العزيز فـي تنفيذ انتقاله منه إلـى منزل الأسـرة. وربما كان أبلغ دليل علـى ذلك أنه، عندما لاحظ الجَّلبة التي أثارتها عناصر الأمن حول ذلك المنزل، قبيل وصول السَّيدين قوش وعطا، خرج يخاطبهم قائلاً:
ـ “يا جماعة ما في لزوم لكل الضَّجة دي؟! أنا نُقُد سكرتير الحزب الشِّيوعي .. كنت مختفي وهسِّي ما مختفي”!
ولو أن السَّيدين قوش وعطا تأخرا ساعتين فقط، لكانا اضطرا لأن يكتبا علـى الباب الخارجي عبارة “حضـرنا ولم نجدكم”، لسبب بسيط هو أن عملية نقل آخر دفعة من متعلقات نُقُد وكتبه من ذلك المنزل كانت ستكون، وقتها، قد اكتملت، وما كانت، بالتالي، ستعود به حاجة للرجوع، مرَّة أخرى، إلـى ذلك المكان!
إن أكثر ما يحيِّرني، حقاً، هو إبقاء قيادة الحزب هذه الحقيقة طيَّ الكتمان، طوال السَّنوات الماضية، ونهباً، بالتالي، للمغالطات والتزوير، بل والطمس، فـي نهاية المطاف، تاركة الأمن يرتع فـي مراعي “نصـره” المجانيِّ غير المستحقِّ ذاك!
(4)
عبارة “حضرنا ولم نجدكم” نسبت، صحفيَّاً، إلى نُقُد، بمناسبة أنه كان الوحيد من بين زعماء أحزاب المعارضة الذي وصل، في الموعد المضروب بالضبط، إلـى ميدان أبو جنزير، بوسط الخرطوم، للمشاركة فـي قيادة مظاهرة ضد النظام كانت حددتها تلك اﻷحزاب نفسها، فـي أحد أيام العام 2011م، وبعد أن طال انتظاره لحضور بقية الزعماء بلا جدوى، تناقلت الصحف، في اليوم التالي، صورة له، حاملاً لافتة كتبت عليها تلك العبارة! وبصـرف النظر عما إذا كانت الصورة واقعيَّة أم افتراضيَّة، فإنها تذكر بما عرف عن نُقُد من قدرات مشهودة فـي مزج آراءه بقدر وافر من الطرافة الذكيَّة!
في مطار الخرطوم، ونحن بانتظار وصول جثمانه فـجر ذلك الأحد الحزين، الخامس والعشـرين من مارس 2012م، همس صديقي محمد المهدي عبد الوهاب فـي أذني، ونحن نتعانق ونكاد نشرق بالدمع السخين:
ـ “كان يَودُّك كثيراً، يا كمال، ويذكرك، دائماً، بالخير، وقد قال لـي، مرة، عندما أخبرته بأنني ذاهب إليك: أوع تكون من نوع الناس البيمشوا ليهو يزعلوه ويرجعوا زعلانين منّو”!
فانخرطنا في الضَّحك، للغرابة، وسط دموعنا المدرارة! هكذا كان نُقُد، دائماً، ابن طرفة بامتياز، يتتبَّع المفارقة، ويستلها من حيث لا يتوقع أحد، ومن بين أكثر المواقف والأحاديث جديَّة.
جاءنا، مرَّة، في البيت، بادي الإرهاق، يتصبَّب عرقاً، والوقت منتصف الظهيرة، والدنيا صيف، والحرُّ شديد، فوقف متكئاً على الباب، قبل أن يدخل، وطلب، بلسان طبشوري، أن نلحقه بكوز ماء مثلج، وعندما أسـرع أولادي به إليه اجترعه، نفرةً واحدةً، كاتِماً أنفاسه حتى آخر قطرة، ووضع الكوز عنه، وهو يلهث، ويمط الحروف مطاً قائلاً:
ـ “لا إله إلا الله .. محمد رسول الله”
ثم ما لبث أن انتبه، فجأة، فالتفت إلـىَّ قائلاً:
ـ “بالله شوف ياخينا .. نتشهد فـي اليوم الواحد ألف مرة .. وبرضو يقولوا ليك .. ملحدين”!
فانفجرنا جميعاً بضحك مجلجل!
(5)
فـي كتابي “الشِّيوعيون والدِّيموقراطيَّة فـي السُّودان” ألمحت إلى أن مسألة الدِّين هي واحدة من أعقد المعضلات التي تجابه الحزب؛ وفي كتابي الآخر الموسوم بـ “عتود الدولة: ثوابت الدِّين أم مُتحرِّكات التَّديُّن”، عرضت، باستفاضة، لمسألة الموقف من الدِّين في فكر وبرنامج الحزب الشِّيوعي “السُّوداني”، في المستوى المؤسِّسي الرَّسمي، كما فـي المستوى العقدي للشِّيوعي “السُّوداني” المتوسِّط reasonable communist. وقد يلزمني أن أنوِّه، هنا، بأنني وضعت كلا هذين الكتابين بتحريض وإلهام مباشـرين من الرَّاحل العزيز. لكنني، فـي الحقيقة، وبالنسبة لموضوعة الدِّين، لم أكشف عن جديد، بقدر ما حاولت أن أعمِّق رؤية سبقني إلـى التعبير عنها الكثير من قادة ورموز الحزب، كحسن الطاهر وفاطمة أحمد والرشيد نايل والقدَّال، كما عالجها، باﻷخص، الشَّهيد عبد الخالق عام 1967م، وأنْ أؤكد على أنَّ الشِّيوعيين “السُّودانيين” ليست لديهم، فـي هذا الشَّأن، عصا مرفوعة وعصا مدفونة، وأنَّ ما يراه الناس منهم فـي العلن هو ذات ما يمارسون داخل حزبهم؛ فمهما نقبت فـي أدبيَّاتهم، منذ الحلقات الماركسيَّة الأولـى مع نهايات الحرب الثانية، قبل التأسيس الرَّسمي لحزبهم صيف 1946م، فإنك لن تجد أثراً ولو طفيفاً لأي إلحاد؛ بل، علـى العكس، ستجد نقداً صـريحاً، فـي ذلك الوقت الباكر، لتبنِّي الإلحاد فـي التجربة السُّوفيتيَّة، ويمكن لمن شاء التماس خبر هذا النقد ضمن رسالة محمد نوري الأمين للدُّكتوراه.
الشَّاهد .. ليس ثمَّة إلحاد داخل الحزب، ونظريَّة الإلحاد نفسها تكاد تكون أكثر الجوانب التي لم يحفل بها الشِّيوعيون السُّودانيُّون فـي الماركسيَّة، لا فـي المستوى المؤسَّسـي ولا فـي المستوى الشَّخصـي لدى أغلبيَّتهم السَّاحقة. صحيح أن الحزب لا يتدخل في تديُّن أعضائه، تماماً كسائر مؤسَّسات المجتمع المدني، فهو رابطة نضاليَّة اختياريَّة بين أناس تجمع بينهم رؤية عامَّة مشتركة للوطن وشعوبه ومستقبل التَّساكن بينها علـى أصعدة الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتَّنوع الدِّيني والإثني واللغوي وما إلـى ذلك، تأسيساً علـى نهج من العدالة الاجتماعيَّة التي تستهدف الارتقاء إلى الاشتراكيَّة؛ أما في ما عدا ذلك فإن توقير الدِّين واجب لدى الشِّيوعيين؛ وقد تصـرَّمت عهود طوال مذ أضحت هذه الحقيقة “فولكلوراً” شائعاً، وصار معلوماً للجَّميع، إلا من أبى واستكبر لأغراض سياسيَّة ضيِّقة، أن لدينا فـي الحزب، مثلنا مثل سائر الأحزاب السِّياسيَّة، أعضاء مسلمين قد لا يكونون ملتزمين بعباداتهم كما ينبغي؛ غير أن ذلك ليس مدعاة لرميهم بالإلحاد ضربة لازب، كما وأن سببه ليس وجودهم فـي الحزب، فلدينا أيضاً، وفـي نفس الوقت، من أصغر الفروع إلى قمَّة اللجنة المركزيَّة والمكتب السِّياسـي، من توقف الاجتماعات لتمكينهم من أداء الصَّلوات، ومن يحجُّون إلـى بيت الله الحرام، ومن يرتِّلون القرآن بأصوات حسنة، ومن يرعون مساجد ابتنتها أسـرهم، وهلمجرّا. ذلكم هو الحزب الذي كان يقوده نُقُد، والذي قاده، قبله، الشَّهيد عبد الخالق، وقد قلنا هذا الكلام، بدل المرَّة ألف مرَّة .. لكن من يسمع ومن يعقل؟!
والحقيقة أننا لا نحتاج، في هذا الجَّانب، لدعاية سياسيَّة، بقدر ما نحتاج لمنازلة فكريَّة صارمة؛ فالذين يرمُون الشِّيوعيين السُّودانيين بالإلحاد، كبُرت كلمة تخرج من أفواهِهم، لا يهمُّهم، فـي الواقع، الذَّود عن حياض الدِّين، كما يزعمون، بل الذَّود، فحسب، عن مصالح اقتصاديَّة تخصُّهم، ومواقع سياسيَّة يتشبَّثون بها مخلباً ونابا! إنهم يخوضون حرباً شرسة ضد الحزب لا لأنهم موقنون، في قرارة أنفسهم، بإلحاده، بل لأن سياساته تهِّدد هذه المصالح والمواقع؛ لذا تراهم لا يتورعون عن استخدام أي سلاح فـي هذه الحرب، بما فـي ذلك الدِّين الذي يستغلونه كأبشع ما يكون الاستغلال لخداع جماهير الفقراء، بتصوير الحزب، في أوساطها، كحزب معادٍ للدِّين، وسوقها، من ثمَّ، كالقطيع فـي اتجاه مضاد لمصالحها الاجتماعيَّة والوطنيَّة! لقد أضحت تلك المسألة مفضوحة إلى حد كبير عبر مسالك الصـراع المحتدم فـي بلادنا منذ الاستقلال.
مؤخَّراً جرت محاولات متهافتة لدمغ نُقُد، شخصيَّاً، بالإلحاد، حتى بعد وفاته! وتلك محض شنشنة مكشوفة، وتخرُّص جبان سببه المباشر، في رأيي، أن البعض أفزعهم مشهد التشييع المهيب وغير المسبوق الذي أحاطت به الجَّماهير جثمانه، بمن فيهم الجَّماهير المسلمة! وبالحق، لو أن القمر ينشقُّ لموت إنسان، أو تحترق الشمس حدَّ التفحُّم، أو تنقذف حمم البراكين من جوف الجبال الرَّاسيات، أو تزلزل الأرض زلزالها، وتخرج الأرض أثقالها، وتميد، كترب الجروف الرَّخو، تحت الأقدام، لوقع ذلك كله ساعة دوَّى النبأ المروِّع، ينقل نعيب البوم ونعيق الغربان نذير شؤمه الكالح، كما سجم الدَّواك، عبر المحيطات والغابات والصحاري، من العاصمة البريطانيَّة إلـى السودانيين حيثما كانوا، أن اسمعوا وعوا .. لقد كتب علـى وطنكم المرزوء، أصلاً، بالفقد الجَّلل، وبالموت الكثيف، أن يفتقر، منذ الآن أيضاً، ضغثاً علـى إبالة، إلـى أحد أبرز حكمائه، قاطبة، وأشجع فرسانه طرَّاً، وأصلب قادته بلا منازع!
هو الفزع والرُّعب، إذن، من ذلك الإجماع على الرَّاحل العزيز، ما دفع المتخرِّصين إلـى تخرُّصهم، وإلا فإن نُقُد لم يكن مُلحداً علـى الإطلاق، بل كان، على العكس، متديِّناً بالفطرة! وليت أئمَّة الفتنة هؤلاء، ممن يكفِّرونه بجهالة، ويكفِّرون الشِّيوعيين السُّودانيين عامة، يدركون القدر من الغبن الذي يستشعره من يُرمى بالكفر وهو ليس بكافر، أو حتى بالمجاهرة بالمعاصـي وهو ليس كذلك! وتحضـرني، بهذه المناسبة، حكاية مهمَّة، والكلام يجرُّ الكلام، فرغم أن الرَّاحل كان، فـي العادة، ممهولاً، وذا بال طويل جدَّاً، إلا أنه بدا، ذات مرَّة، رغم الهدوء الظاهري، مستفَزَّاً وغاضباً إلـى أقصـى حد؛ وذلك عندما استضافته قناة النِّيل الأزرق كمرشَّح لرئاسة الجُّمهوريَّة، فانبرى له صحافي غِر يسأله، بكل قلة حياء، إن كان يصلِّي! فما كان منه إلا أن أجابه فوراً، وسط دهشةِ الجَّميع: “أنا الآن لا أصلِّي”! بعدها بيوم أو يومين عبَّرت له عن دهشتي لردِّ فعله الحادِّ علـى غير العادة، فقال: “يا أخي ماذا تتوقع منِّي عندما أرى صبيَّاً كان يمكن أن تلده ابنة لـي فـي آخر بطونها، وهو يحاول أن ينصب لـي محكمة تفتيش بعد كل هذا العمر! لقد كنت مدركاً أن البرنامج مبثوث علـى الهواء مباشـرة، فرغبت أن أعطيه درساً علـى رؤوس الأشهاد بأنني لا أخاف ممن يحاول التفتيش فـي ضميري، فإذا كان يريد تلك الإجابة بالذات فليأخذها، ولينظر إن كان الناس يصدِّقون”!
فـي ما بعد، لاحظت، بالفعل، أن المسلمين السُّودانيين العاديين تحلوا، إزاء تلك الواقعة، بقدر عال من الذكاء جعلهم يتفهمون ردَّ فعل نُقُد، ويقدِّرون دواعي غضبته، الأمر الذي عصمهم من أن يأخذوا إجابته الغاضبة تلك علـى وجهها الحَرفيِّ المباشر، بل لعلَّ ذلك الصحافي الغِر نفسه بات خجلاً من سؤاله الأخرق!
ولكم ماثلت كلمة نُقُد فـي واقعة التلفزيون تلك، كلمته القديمة التي كان ألقاها أمام الجمعيَّة التأسيسيَّة، يوم أقدمت، بفرية الإلحاد، علـى تعديل الدستور، عام 1965م، لحلِّ الحزب، وطرد نوَّابه منها، وكان هو أحدهم، حيث قال: “لسنا ملحدين، ولا نقول ذلك عن خوف، فلم نتعلم الخوف فـي الماضـي، ولسنا مستعدِّين لتعلمه الآن”!
كثيرون تساءلوا، يوم التشييع، عن علاقة نُقُد بالطريقة الإدريسيَّة، علـى خلفيَّة إمامة أحد سادتهم الصلاة علـى جنازته. لقد كانت تلك، في الحقيقة، بعض وصيَّته لشقيقته فائزة وشقيقه عبد الله، عندما أحس بدنوِّ الأجل فـي لندن. وقد لا يعلم الكثيرون ثلاثة أمور بالغة الأهميَّة فـي توضيح هذه المسألة: أولها أن علاقة الرَّاحل بالسَّادة الأدارسة هي بعض إرث عائلته، فاسم شقيقه “سيِّد”، مثلاً، هو “سيِّد أحمد نُقُد”، تيمُّناً بالسَّيِّد أحمد الإدريسـي؛ وكان الرَّاحل يوقر ذلك الإرث، فيحرِّص علـى علائقه تلك بالسَّادة الأدارسة الذين كانوا يبادلونه محبَّة خالصة؛ وأذكر أنه عرَّفني بالمرحوم الدُّكتور عبد العال الإدريسـي، اختصاصـي الأمراض النفسيَّة والعقليَّة، عندما احتجت لاستشارته فـي بعض شأن مهني، قبل أن يشقّ علـي نبأ مصـرعه الفاجع فـي حادث حركة مشؤوم بطريق بحر ابيض؛ أما الأمر الآخر فهو أن علاقات الراحل تلك بالسادة الأدارسة لم تنقطع حتى وهو علـى شفا الموت بلندن، فقد كان خطه الهاتفي مع السَّيِّد المجدِّد الإدريسـي، بالذات، ساخناً طوال الوقت، وكان الأخير يسأل مطوَّلاً عن صحَّته، وكان الرَّاحل يطيبُ نفساً بذلك الاهتمام؛ وقد انتدب السَّادة الأدارسة الدُّكتور التَّازي الإدريسـي ليصلِّي عليه تنفيذاً لوصيَّته. وأما الأمر الثالث فهو أن الرَّاحل كان، حتى وفاته، منشغلاً بوضع مؤلَّف ضخم فـي التصوُّف السُّوداني؛ وعندما كنا نفكر سويَّاً فـي إنشاء مركز للدِّراسات والبُحوث، بعد أن يفرغ هو نهائيَّاً من عمله كسكرتير عام للحزب، وفق ما كان يعتزم قبل المؤتمر الخامس، كان يقول لـي متحسِّباً: “أبعدني فقط عن أي شأن إداري ريثما أكمل كتابي عن التصوّف فـي السُّودان”.
اهتمام الراحل بالتصوُّف كان نابعاً من اهتمامه الأصيل بحقائق الحياة السُّودانية الواقعيُّة، لا المتوهَّمة، والتي كانت أجندته المستقبليَّة تشمل الكثير منها، في إطار انشغاله العام بالتطبيق الخلاق للماركسيَّة علـى واقع بلادنا؛ وغاية أملـي أن يسهُل العثور علـى تلك المخطوطة القيِّمة، ليُعهد بها إلـى مختصين أمناء يعكفون علـى تحرير الأجزاء المكتملة منها وإصدارها.

يتبع….

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.