كما ولدتهم كلية غردون

0 66
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كان طلبي التفرغ “موظفاً” بالحزب الشيوعي في ١٩٧٠، الذي أثنى أستاذنا عبد الخالق محجوب على رشاقة نصه كما رأينا في كلمة مضت، بادرة تضامن شخصي معه في وقت خرج عليه حواريوه بقيادة معاوية إبراهيم بعد انقلاب مايو ٦٩. ولم يكن نزاعهم معه وليد فترة ما بعد الانقلاب. فوقوع الانقلاب ونجاحه لم يزد عن إطلاق لسانهم حفاوة به كثورتهم المنتظرة. فقد كانوا يبيتونه سراً ثأراً لثورة أكتوبر ١٩٦٤ المختطفة بالرجعية وحل حزبهم في رابعة البرلمانية. واتفق لهم أن الخلاص في انقلاب تقدمي يعيد ثورة أكتوبر سيرتها الأولى. وبلغت هذه الفكرة من الرسوخ عندهم حد خروجها من أروقة الحزب للعلن بعرض أحمد سليمان لها في مقالة على صفحات جريدة “الأيام”. ورد أستاذنا بنفس الصحيفة رداً شدد فيه على أن تكتيك الحزب المعتمد هو الثورة بالجماهير لا الانقلاب.
وكان سبق لأستاذنا أن عرّض بالخطة الانقلابية في تقرير المؤتمر الرابع للحزب في ١٩٦٧. فسمى دعاة التغيير المنتظر بغير الجماهير ب”اليائسين والمغامرين”. وتماسك معهم الحزز في اجتماع اللجنة المركزية في مارس ١٩٦٩ الذي وصم فيه كلاً من الانقلاب بتكتيك البرجوازية الصغيرة لاحتلال دست الحكم وبالديمقراطية الجديدة التي يدعون لها ك”الصراخ من أعلى البيوت”. كانت الفكرة الانقلابية “سراً في جوانح” قسم من قيادة الحزب أطلق وقوع الانقلاب عقيرتها بالغناء له. فخرجت من “المعارضة” الصامتة لتكتيك الحزب للتغيير بالجماهير، في وصف أستاذنا، إلى “الإشهار والعلن”. وعبارات هذه الجملة مما جاء في بيت شعر لعلى نور شاعر المؤتمر.
تسألني لماذا تكلفت لخاطر الرجل هجران وظيفة الأفندي التي رتبتني لها كلية غردون إلى مجاهل الأفندي المضاد؟ والسبب أنه هو من أوحى به قبل وقوع تلك الهجرة بنحو سنة أو نحوها. فحدث أن اجتمعنا به نفراً من شباب الشيوعيين في وقت باكر في بداية ١٩٦٩ شكونا له حال الحزب المائل واللغط الذي ضرب أطنابه حول ما لا يسوى. ومنهم، لو أذكر، محجوب الحارث وخالد المبارك، وعثمان جعفر النصيري، وعلي عبد القيوم، وعبد الله محمد الحسن، وأخ لجعفر محمد علي بخيت راح عليّ اسمه. وصارحناه بما في نفوسنا من كبد على حال الحزب. وجلس بيننا كالقمر في فنائه. ولم يُفاجئ بنقدنا للحزب وغيظنا منه معاً. فقد كان متصالحاً مع مصاب الحزب. ولم كن نعرف وقتها أن من وراء المصاب ما سماه بالصراعات الصامتة حول تحول الحزب من الثورة إلى الانقلاب غير أنها تتخذ شكل اللغط والملامات خارجه. بل كان كتب تقريراً خاصاً عن أزمة القيادة في الحزب في أعقاب انتخاب لجنته المركزية في المؤتمر الرابع مباشرة.
وأذكره ينتهي بنا في ذلك الاجتماع إلى وجهة وقرار. فالوجهة هي دعوتنا للكتابة حول ما يعن لنا حول استراتيجية الحزب من زوايا تخصصاتنا. وقال تلك لكم وسقفكم السماء لا زجر ولا وجل شريطة التمسك بتكتيكات الحزب التي عليها مدار وحدته في الممارسة. أما القرار فهو أنه أعفى هيئة تحرير جريدة أخبار الأسبوع (صاحبها عوض برير تكرم بوضعها تحت تصرف الحزب بعد مصادرة صحيفته الميدان) وأحلنا محلها لتكون منبراً لما جاشت به نفوسنا من تغيير للحزب.
قطع أستاذنا بذلك الاجتماع دابر الشكوى. وحيا على الكفاح. وكنت في أخبار الأسبوع بمثابة رئيس التحرير على فريق متجانس تنقى من لوم الغير واستقبل تبعة أن يكون الحل. وأذكر الدم الجديد الذي ضخ منا في عروق الجريدة. ومن أفضل ما نشرت فيها إنترفيو مع المعماري التشكيلي صابر أبو عمر، وعرضاً لكتاب “النشاطات الشيوعية في السودان” لجعفر بخيت، وكلمة في نقد إعلان كان يعلى من قيمة المال مستشهداً ببيت شعر: “كل النداء إذا ناديت يخذلني إلا النداء إذا ناديت يا مالي”، وكلمة في الرد على ابن خلدون (جمال) طعن حزبنا بعبارة “من يهز الشجرة ومن يلقط الثمر”.
لقيت بعد تقديم خطاب طلب التفرغ للعمل الحزبي قائدا من المكتب السياسي. فاستنكر مني الطلب وعده نوعاً من العودة للرحم في حين تفتحت الوظائف للثوريين ليخدموا الدولة الجديدة. وقال لي كيف تتفرغ ورجل في مثل قدراتك مطلوب في ذلك اليوم بالذات ليتولى مكتب إعلام بحر الغزال في واو. ولم أغتم. فواضح أن أفندية الحزب المضادين انتهزوا سانحة الثورة ليرتدوا أفندية كما ولدتهم كلية غردون.
كنت أعرف أن تفرغي مما سيطرب له أستاذنا (وأعرف يقيناً أنه فعل) في وقت فزع من حوله إلى غنائم الثورة. وكان يعرف شقاء الحياة التي اخترتها لنصرته وهو الذي كرم الله جيبه فلم يعنه لوظيفة أبداًمتفرغاً لقضية الثورة السودانية وبعض الوعي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.